كريس ميتشل.. لأن هذه الحياة لا تُطاق

الإثنين، 21 أكتوبر 2019 - 12:33

كتب : زكي السعيد

كريس ميتشل

سيمتلك كريس ميتشل الشجاعة الكافية حتى يواجه القطار المُسرع، لكنه لن يمتلك الجرأة حتى ينفذها وحده، وسيجعل صديقته تشاركه لحظاته الأخيرة رغمًا عنها.

الاكتئاب هو مرض خطير للغاية، يمكنه أن يسلبك مشاعرك، يُفقِدك الاهتمام بالأشياء، يعزلك عمن حولك، يُضمِر جسدك، يُثقِل قلبك، ويُجبِر عقلك على قرارات لا رجعة فيها.

في 7 مايو 2016، قرر كريس ميتشل إنهاء حياته لأنه اكتفى. ولأنه لم يكن لاعبا شهيرا؛ فلم تُصدَر له الكتب، ولم تُكتَب عنه المقالات، ولم يبالغ الصحفيون في رثائه، فهو لن يجلب كثيرا من المشاهدات.

حتى "جوجل" لم ينصفه، فلو كتبت "كريس ميتشل" بالإنجليزية، ستقابل صحفيًا أستراليًا، أو كاتبًا أمريكيًا، أو موسيقيًا كنديًا.. وربما ربما، تقابل لاعبا إسكتلنديًا.

لا بد أن كريس ميتشل كان ناقما على هذا العالم للغاية عند رحيله، والآن بعد موته بـ3 سنوات؟ لا بد أنه أكثر نقمًا.

لو امتلك كريس ما يكفي من الأسباب لتصيبه بالاكتئاب قبل انتحاره، فلا بد أنها تضاعفت في قبره، ولربما انتحر 10 مرات وليس مرة واحدة إن استطاع.

اقرأ: جاري سبيد.. والخلود إلى النوم دون استيقاظ

وُلد كريس ميتشل في مدينة سترلينج الإسكتلندية يوم 21 يوليو 1988، وسيغادر هذا العالم بعد 28 عاما دون أن يترك أثرا كافيا لتخليد اسمه.

ربما تخيّل مسيرة مستقبلية مزدهرة يوم أن دخل بديلا مع فريقه المغمور فالكيرك بصيف 2007، وخطف هدف فوز تاريخي على العملاق أياكس أمستردام وديًا.

لكنه لن يحقق لاحقا أفضل من 7 مباريات مع منتخب إسكتلندا للشباب كانت إنجازه الأهم ربما في مسيرته التي سيقضيها متنقلا بين أندية متواضعة.

آير يونايتد، برادفورد سيتي، كوين أوف ذا ساوث، كلايد، على الأغلب لن تقرأ أسماء هذه الأندية مجددا سوى في تقرير آخر يتناول انتحار كريس ميتشل.

مع مرور السنوات، أدرك ميتشل أن مسيرته لن تكون كما يحلم الأطفال، لن يكون نجما عالميا، بل سيقضيها في الظل حتى يعتزل دون أن يسمع به أحد.

لكنه حتى سُلب هذه الفرصة، وكل ما تحصّل عليه كان نصف مسيرة وليست مسيرة كاملة من الأساس.

ميتشل أصيب في عموده الفقري وقت تواجده في كوين أوف ذا ساوث، ليخضع لجراحة لم تعيده أبدا إلى حالته الأولى، وجعلت الألم ملازما له في كل ركلة وتمريرة.

رحل ميتشل عن ناديه وانحدرت مسيرته أكثر عندما انضم لـ كلايند في صيف 2015، فريق في الدرجات الدنيا بإسكتلندا، اضطر حينها للعمل في أحد المصانع حتى يتدبر أمره.

في تلك الفترة تعرّف على لويز، رفيقته التي ستختبر التجربة الأسوأ على الإطلاق بعد عام، عندما سيقتلع حياته أثناء حديثه إليها في الهاتف!

بداية النهاية

في كلايد، ورغم صناعته 6 أهداف في نصف موسم، أدرك ميتشل أنه لم يعد قادرا على الاستمرار في ممارسة كرة القدم، ليحسم أمره، ويعتزل اللعبة في فبراير 2016.

هجر ميتشل كرة القدم التي شغلت حياته منذ الطفولة، واقتنع بالعمل كموظف مبيعات في شركة يملكها عمه.

كَف عن ركل الكرات، وتحوّل للعمل المكتبي، خلع حذائه الرياضي، واستبدله بربطة عنق رتيبة.

شهران فقط احتاجهما ميتشل في هذه الوظيفة حتى ينهار، ويعترف لأهله بما أخفاه لبعض الوقت.

أثناء تمشية مع شقيقته لاورا، أفصح كريس لها عن إصابته بالاكتئاب، النبأ الذي وقع عليها كالصاعقة، ودفعها إلى إبلاغ صديقته لويز، ووالديه، وجميعهم لم يتأخروا عن مساعدته.

عُرض كريس فورا على طبيب نفسي، بدأ تعاطي الأدوية، ترك شقته وأقام مع والديه لأسبوع، مرت عليه لويز يوميا واصطحبته في تمشية مع كلبتهما إندي.

وعندما اعتقد الوالدان أن العاصفة قد مرت، سمحا له بالعودة إلى منزله بشرط أن يجيب اتصالاتهما، وأن يسمح لهما بزيارته.. لكنها أبدا لم تمر، لأنه سينتحر بعد أسبوع.

ميتشل توقّف عن تعاطي أدويته التي أصابته بالإعياء، تخلى عن هذه الحياة، وترك كلبته إندي.

في اليوم السابق لانتحاره، أخبرته صديقته لويز أنها لن تسافر لندن لحضور عيد ميلاد أحد أصدقائها حتى تبقى إلى جانبه للاعتناء به، فعارضها على الفور.

بل أنه قام بإيصالها إلى المطار، عانقها وتمنى لها وقتا ممتعا في رحلتها.

أما لويز، فامتلكت بعضا من الشك الذي لم تستبين مصدره، فعكفت على مراسلته والاطمئنان عليه طوال اليوم، وكريس أوهمها أنه في أفضل حال.

أخبرها أنه يطلي إحدى حجرات منزلهما، وأرسل لها صورة إندي جالسة على الأريكة تتلاعب بكرتها الصغيرة.

في المساء، دخلت لويز في سباتها العميق الأخير على الإطلاق، لأنها ستتلقى مكالمة هاتفية مُفزعة لا تُنسى في الصباح التالي.

على بُعد أكثر من 643 كيلومترا، كان كريس من جانبه يقضي ليلته الأخيرة على الأرض.

لم يرافقه أحد في هذه الليلة المُظلمة سوى كلبته إندي، ولذا فلا يدري أي منا ماذا فعل كريس في ساعاته الأخيرة تلك.

استيقظ كريس –أو لعله لم ينم من الأساس-، ارتدى ملابسه، ودّع كلبته، توجّه إلى تقاطع القطرات الواقع في كورنتون، وكان عليه إجراء مكالمة هاتفية أخيرة.

لم يمتلك كريس الجرأة الكافية حتى يواجه القطار وحده، فوضع صديقته على الخط، ودّعها، لم يستجب لتوسلاتها.

نفخ القطار أبواقه رعبًا في وجه كريس، ولويز توجّب عليها أن تسمع كل ذلك، توجّب عليها أن تعايش كل شيء حتى لحظة الاصطدام.

الإنكار.. الإنكار هو الغريزة الإنسانية الأقوى والأكثر سطوة في مواجهة المصائب والصدمات. الإنكار هو الملاذ الأخير لمن لا ملجأ له. الإنكار هو أمل من تلاشى إيمانه.

لويز أنكرت، حتى بعد أن أخبرها تطبيق القطارات الذي تملكه على هاتفها أن حركة السير توقفت في الخط القريب من منزلهم، حتى بعد أن فقدت الاتصال بـ كريس، حتى بعد أن سمعت أبواق القطار تصيبها بصمم بالغ.

في نفس الوقت، كان فيليب والد كريس في سباق مع الزمن للوصول إلى موقع الحادث، بعد أن أبلغ كريس شقيقته لاورا بنيته الانتحار في ذاك المكان.

فيليب أدرك أنه سيصل لمكانٍ يُنقَذ فيه حياة نجله، أو يجمع أشلاءه، ولا خيارات أخرى غير ذلك.. لكنه وصل متأخرا جدا.. بعد أن فاته القطار.

عندما تلقت لويز النبأ من الوالد فيليب، تضاءلت غريزة الإنكار، وبات كريس ميتشل من الماضي.

اقرأ: ضحايا الحياة – القديس كاستيليو

تسترجع لويز هذا اليوم الأسود بعد عامين من انتحاره:

"كنت مع كريس على الهاتف عندما انتحر، سمعت كل شيء، ولا أصدق حتى اللحظة".

"امتلكت تطبيقا لرحلات القطارات على هاتفي، وقمت بتفحصه فورا لأجد أن الرحلات توقفت على هذا الخط بسبب أن أحدهم صدمه قطار".

"كريس امتلك كل شيء يريده، لكنه كان مريضا وقد أخفى ذلك لفترة، وقبل أن يتلقى المساعدة التي يحتاجها، أنهى حياته".

"الاكتئاب والقلق يمكن أن يصيبا أي شخص في أي مجال، ولكن كرة القدم تحديدا مهنة وحشية".

"كريس اضطر إلى ترك دراسته في عمر السادسة عشر حتى يتفرغ للعب كرة القدم، لقد أحبها وأحب زملاءه".

"عندما قابلته، كان قد انضم لـ كلايد لتوه، ومن الجلي أنه كان حزينا للطريقة التي آلت إليها الأمور، ولكنه بدا قادرا على التعامل مع الموقف".

"كان مرحا، وطيبا، وشخصا ودودا، وقريبا من عائلته. انتقلت للإقامة معه في شقته، واقتنينا كلبة أسميناها إندي، وقد كنا سعداء للغاية".

"الكثير من أصدقاء كريس المُقرَّبين كانوا هؤلاء الذين ترعرع يلعب الكرة معهم، وقد بدأ في الانعزال عنهم تدريجيا".

"كان يختلق الأعذار حتى لا يرى الناس، وقد فقد الاهتمام بالقيام بالأمور التي اعتاد عملها".

"بعد اعترافه بمعاناته من الاكتئاب، أقام كريس لأسبوع في منزل والديه حتى يعتنيا به، وكنت أمُر عليه مساءً ونصطحب إندي في تمشية، وقد بدا قادرا على التعافي".

"اعتقدتُ أن اعترافه بالأمر وصراحته بشأن ما يشعر، سيريحه...".

"في صباح ذلك اليوم، كريس اتصل بي قبل الساعة العاشرة، وكان من الجلي أن الأمور ليست على ما يرام".

"مر عامان ولم أستطع تخطي الأمر حتى اللحظة، ولست واثقة حتى أنني سأتخطاه أبدا".

"أعرف أن كريس كان ليرغب في أن أتجاوز ما حدث، وأنا بالفعل مُقربة للغاية من عائلته".

"لقد أحب إندي كثيرا لدرجة أنني أشعر أنها جزء منه لم أفقده بعد".

"قبل وفاة كريس بيوم واحد، ذهب لمقابلة أصدقائه الذين لم يرهم لفترة طويلة، زار مقر تدريبات نادي كلايد، وأهداهم أقمصته الكروية".

"لم نكتشف ذلك سوى بعد أسابيع، يبدو أنه كان قد خطط للأمر بالفعل".

"كرة القدم رياضة تجعل لاعبيها يريدون أن يظهروا دائما مفتولي العضلات ومثاليين، لا يرغبون في إظهار أي نقاط ضعف. ولكن عليهم حقا أن يتعلموا أن الإفصاح عما بداخلهم ليس شيئا سيئا".

"حياة كريس تمحورت حول كرة القدم، ولو امتلكت الأندية التي لعب لها مختصين قادرين على مساعدته ذهنيا، أعتقد أنه كان سيلجأ إليهم لمساعدته".

"ولكن كريس لم يعد معنا، ولذا قمنا بتدشين هذه المؤسسة، ولو استطعنا مساعدة شخص واحد حتى، فسيكون كريس فخورا للغاية".

مؤسسة كريس ميتشل

في ذكرى وفاته الأولى، دشّنت عائلة كريس مؤسسة خيرية هدفها التوعية للمشاكل النفسية التي تنتاب لاعبي كرة القدم.

المؤسسة تتعاون مع رابطة الدوري الإسكتلندي لتوفير الرعاية النفسية وفرص تدريب لمساعدة اللاعبين على الحصول على وظائف تناسبهم بعد الاعتزال.

يقول فيليب والد كريس عن ذلك:

"الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية لا يرغبون في الإفصاح عنها، يخشون أن تلتصق بهم وصمة العار".

"عندما تتعرض لإصابة جسدية، فإنك تتلقى العلاج وتتحسن. لكن المشاكل النفسية... تشعر كما لو أنهم يخجلون من الإفصاح عنها".

"أعراض مرض كريس النفسي لم تكن جلية حتى أيامه الأخيرة، ورغم ذلك، أعتقد أنها كانت تراكمات فترة طويلة".

"في الأشهر التي أعقبت اعتزاله كرة القدم وسبقت وفاته، لم نتوقع أبدا أنه سيقدِم على فعلته".

"لاحظنا أنه بات انطوائيًا أكثر فأكثر، لم يكن يناقش الأمور التي شعرنا أنها ستفيده في المضي قدما".

"لم نعتقد أن الأمور بهذا السوء، لقد أجاد إخفاء متاعبه، لم يرغب في الإفصاح لعائلته عن المشاكل النفسية التي أصابته".

لم يترك كريس رسالة انتحار، بل ترك أبواق القطار تتردد في ذهن صديقته للأبد.. يا ليته ترك رسالة انتحار.

"الحياة لا تُطاق.. سامحوني".

-إولاندا كريتسينا جيجليوتي.. أو داليدا، في رسالة انتحارها.

الخط الساخن لتجنب الانتحار: 0220816831 – 08008880700

مصادر:

صحيفة ديلي ريكورد

اقرأ أيضا:

هل يعود مورينيو لـ ريال مدريد

مدرب صن داونز يعترف برغبته في تجنب الأهلي

ميدو يتحدث عن أزمة عمرو وردة

جوارديولا: لسنا مؤهلين للمنافسة على دوري الأبطال

ميدو يتحدث عن صلاح "الأفضل في تاريخ مصر"

التعليقات