غاندي والكرة

الجمعة، 04 أكتوبر 2019 - 20:59

كتب : لؤي هشام

غاندي والكرة - صورة المهاتما المرسومة منقولة من موقع football paradise

تكمن قيمة الرحلة فيما تمر به من محطات تُصقل خبراتك. تضع نصب عينيك قيمك ومبادئك ومعها تخض التجارب المختلفة سعيا لاستنباط ما يخدم قضيتك وما سيصبح وسيلةً لتحقيق المنشود.

قد يتعلق قلبك بها، وقد يتملكك الشغف هياما في تفاصيلها، لكن مع مرور الوقت تتيقن أن أكثر من مجرد لعبة شعار لا تدركه الأغلبية بما حقا يراد به، وأنها حقا تصبح أكثر من لعبة فقط عندما تخدم القضية.

وبين عالم ساد فيه حينا استخدام الدين كواجهة للتفرقة بين البشر، وآخر زاد فيه المستبدون استبدادا لينخفض سقف الحريات ومعه سقف الخيال، عاش رحلته دون أن يفقد خياله.

فحين نفقد الخيال نصبح أكثر تقبلا للاستبداد، فنجعل الحاكم -أو المحتل- أكثر قوة ويجعلنا أكثر استعبادا.. وهنا يظهر المتمسكون بخيالهم لتترأى الحلول أمامهم.

بأبسط الطرق يتحايلون، وبنظرة معمقة يجدون طريقا يجمّع الناس ولا يفرقهم، فيصبح حجر الأساس نحو قيم التحرر.. وعندها تظهر كرة القدم في ردائها الأمثل.

ومع غاندي كانت الكرة البذرة التي زرعها بحثا عن حصاد طال انتظاره.

طالع أيضا - (مايكل جاكسون والكرة)

When you read of Mahatma Gandhi in South Africa, you read of train journeys and law firms and the fight against colonial oppression. There is a little known story of the Mahatma using football as a tool in his war against the people who invented the game. (Art by Fabrizio Birimbelli)

في جنوب إفريقيا أدرك بالتأكيد سريعا شعبية الكرة بين المجتمعات المهمشة جاعلا إياها وسيلة فعالة للوصول إلى الناس

نصّب المهاتما غاندي نفسه ضمن المؤثرين في تاريخ البشرية الحديث بقدرته على قيادة الهند للاستقلال من الاحتلال البريطاني، منتهجا سياسة المقاومة السلمية والعصيان المدني الشامل ليلهم الكثير من حركات التحرر حول العالم.

ومع صورته كزعيم روحي في الهند وسياسي بارز ترسخت أكثر صورته كرمز للخير خاصة بعد اغتياله، بينما لا يجد آخرون الحرج في دراسة سيرته بعين نقدية وتسليط الضوء على تعامله "الدوني" مع الأفارقة والنساء.

إلا أن سيرته تحمل بعدا آخر يتعلق بعلاقته بكرة القدم وتأثره بها وتأثيره عليها، عندما بدء مشوار الألف ميل من جنوب إفريقيا حيث كان يعمل كمحامٍ لأكثر من 20 عاما مدافعا عن حقوق الهنود في تلك البلد التي كانت التفرقة العنصرية المحرك الرئيس لسياستها في الحكم.

مهنة ومسيرة مشابهة لشاب يٌدعى نيلسون مانديلا سيظهر في نفس البلد بعدها بعقود ليعيد بناء أمة مكلومة.

في ذلك الوقت رُسمت لغاندي صورة الشاب الصغير الشغوف باللعبة لذاتها، والشغوف أكثر بتأثيرها لتشكّل نواة فلسفته السياسية لاحقا، وفي بلد البافانا بافانا لم يهتم بأكثر من تحسين أحوال بني جلدته.

يتحدث بونجاني سيثولي أحد المسؤولين في بلدة فونيكس، وهي بلدة هندية أسسها المهاتما، في جنوب إفريقيا "غاندي كان يعرف كرة القدم بالفعل منذ الوقت الذي قضاه في إنجلترا لدراسة القانون".

"لم يكن أبدا لاعبا ولكن بدا عليه الحب الواضح للكرة رغم عشقه للكريكت وقيادة الدرجات في البدايات، ربما لأن الكرة آنذاك كانت اللعبة المفضلة للطبقات الأقل ثراء".

"وفي جنوب إفريقيا أدرك بالتأكيد سريعا شعبية الكرة بين المجتمعات المهمشة جاعلا إياها وسيلة فعالة للوصول إلى الناس الذين يرغب في رفع وعيهم السياسي".

في رحلة بالقطار من ديربن إلى بريتوريا عقب فترة قليلة من وصوله، أدرك غاندي كم التفرقة الكبير في المجتمع الجنوب إفريقي إذ طالبه الكمسري بالرحيل من عربات الدرجة الأولى المخصصة للبيض فقط والتواجد في عربات الدرجة الثالثة.

وعندما رفض مصمما على البقاء في الدرجة الأولى التي قطع تذكرتها تعين عليه مغادرة القطار قسرا ومبيت ليلته في محطة بيترماريتسبورج، لتشعل تلك الحادثة حافزه على مواجهة مظالم الهنود.

مستلهما أفكاره من كتابات المفكر الأمريكي ديفيد هنري ثورو والكاتب الروسي ليو تولستوي نظم غاندي حملة من العصيان المدني بين السكان الهنود للفت الانتباه إلى القوانين التمييزية التي أعطتهم مكانة أقل من البيض.

والخطوة التالية كانت الاعتماد على كرة القدم.

طالع أيضا - (بن لادن والكرة)

"المقاومة السلبية" كان اسم 3 فرق أسسها غاندي -بنفس الاسم- لاحقا في مدن ديربن وبريتوريا وجوهانسبرج.

لسوء الحظ، لا يوجد أي دليل يثبت أن غاندي أبدى استعداده للعب مع هذه الفرق أو تولي دور تدريبي.

لكن بعض الصور المكتشفة في متحف دار المحكمة القديم في ديربان تظهر وقوفه إلى جانب لاعبي الفريق، وحتى إلقاء الخطب على الجماهير من أرض الملعب قبل المباراة أو بين الشوطين.

mahatma Gandhi

في وقت لاحق فقط أدرك أنه يمكن أن تطون مفيدة أيضا لتحقيق غاياته السياسية

تضمنت الأدوات الرئيسة التي استخدمها غاندي لتدريب لاعبي كرة القدم الأدوات نفسها التي استخدمها لمحاربة البريطانيين من أجل الحرية في الهند.

وكمشجع دائم الحضور في مباريات الكرة راقب التأثير الشعبي للعبة بين الطبقات الدنيا في المجتمع واستغل شغفه لإيصال رسائل الوعي للجماهير مبرزا دور التفرقة العنصرية في الإضرار بمصالحهم.

ريبيكا نايدو، حفيدة جي آر نايدو رفيق غاندي خلال سنوات كفاحه، أمضت الكثير من الأعوام في توثيق حياة المهاتما في جنوب إفريقيا لمتحف دار المحكمة، وتنقل إلينا قائلة: "الفرق التي أسسها لم تندمج تحت مظلة أي كيان احترافي".

"في ذلك الوقت كانت الكرة لا تزال في مهدها في العديد من أنحاء العالم بما في ذلك جنوب إفريقيا. لم يكن هناك اهتمام كبير بالبطولات الثابتة أو المسابقات، بدلا من ذلك كانوا فقط يلعبون مباريات ودية في مناطق مختلفة".

"في البداية يبدو أن غاندي أغراه ببساطة جوهر هذه الرياضة نفسها، وفي وقت لاحق فقط أدرك أنه يمكن أن تكون مفيدة أيضا لتحقيق غاياته السياسية".

شملت أماكن المباريات بلدة فونيكس التي تم الحفاظ عليها الآن كموقع تراثي، حيث لا يزال بإمكانك رؤية أرض الملعب التي أنشأها غاندي حتى يومنا هذا.

وكذلك أقيمت مباريات في "مزرعة تولستوي" في جوهانسبرج، التي سميت باسم الكاتب الروسي الذي بدأ مراسلات استمرت مع غاندي حتى وفاته في عام 1910.

ساعدت عوائد تلك المباريات على توفير الدعم المالي للمقاومين، الذين أُعتقلوا للوقوف ضد النظام العنصري، ولعائلاتهم.

وتحكي بعض الوثائق أن إحدى المباريات التي لعبت في جوهانسبرج عام 1910 بين فريقي "المقاومة السلبية" -نظرائهم في بريتوريا- كانت للاحتجاج على السجن غير العادل لنحو 100 من رفاقهم بسبب معارضتهم لقوانين الفصل العنصري.

طالع أيضا - (نجيب محفوظ والكرة)

mahatma Gandhi

كانت الكرة تمكنه من إيجاد السلام الروحي

في الحقيقة لم يكن غاندي فقط رائدا في استغلال اللعبة لرفع الوعي السياسي والحقوقي وإنما استغله كذلك لتحسين الذات والعمل على الترابط الاجتماعي معليا من شأن قيم كالجماعية، وفقا لما يراه بوبالان جوفينداسامي رئيس اتحاد جنوب إفريقيا لكرة الصالات.

ويشرح "ما فتن غاندي على وجه الخصوص كان فكرة النبالة في كرة القدم، في ذلك الوقت كانت فكرة اللعب الجماعي أقوى بكثير من فكرة اللاعب النجم، وهذا أمر جذبه بشدة".

"كان يعتقد أن اللعبة لديها إمكانات هائلة لتعزيز العمل الجماعي. بالتأكيد أعرب عن تقديره لفائدة اللعبة في جذب حشود كبيرة ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأنها كانت مجرد منصة تواصل مع الناس بالتسبة له".

"كانت أكثر من ذلك بكثير على ما أعتقد. لقد كانت واحدة من عواطفه الشخصية العظيمة، وإحدى الطرق التي تمكنه من إيجاد السلام الروحي".

ويذهب جوفينداسامي بعيدا أكثر مؤكدا "ساعدت مهاراته التنظيمية وحركته في وضع الأسس للهياكل الرياضية غير العنصرية في جنوب إفريقيا اليوم لأن غاندي ومعاصروه بذلوا جهدا أكثر من أي شخص آخر في ذلك الوقت لإشراك غير البيض، ولا سيما السكان الهنود في البلاد في أنشطة رياضية منظمة".

مساهمات غاندي ساعدت على تأسيس اتحادات إقليمية ومحلية للعبة كـ اتحاد ترانسفال الهندي، واتحاد حي كليب ريفير الهندي لكرة القدم، ثم اتحاد آخر في 1903 بدعم منه يُدعى "اتحاد جنوب إفريقيا للكرة الهندية".

والأول وصفه بيتر أليجي أستاذ التاريخ الإفريقي في جامعة ميتشجن "على الأرجح أول فريق كرة قدم منظم في القارة لم يكن يديره البيض".

(اتحاد جنوب إفريقيا للكرة الهندية)

طالع أيضا - (توفيق الحكيم والكرة)

ويشير جوفينداسامي "كان هذا لا يزال بعيدًا عن النموذج الموحد لأمة قوس قزح بالطبع ولكنه على الأقل مهّد الطريق لاحقا لاتحادات وطنية تُلعب فيها الكرة دون النظر للون البشرة".

وفي عام 1914 ومع ذيع صيت غاندي كسياسي ومفكر قرر العودة إلى بلاده الهند ليبدأ رحلة جديدة من الكفاح ضد المحتل تاركا المجال العام في جنوب إفريقيا لقيادات جديدة.

وفرق "المقاومة السلبية" حُلّت بعدها لتتبقى لنا فقط بعض الحكايات الشفهية عن تاريخها، وبعض الصور المتناثرة والوثائق الممزقة.

mahatma Gandhi

هذه الهيئات لا تُصنع في ملعب كرة القدم وإنما في حقول الذرة والمزارع. أود أن أحثكم على التفكير في هذا الأمر وستجدون توضيحات لا حصر لها لإثبات كلماتي

لكن مجهودات غاندي في جنوب إفريقيا لم تتلاش سواء في العمل المدني أو الرياضي.

وتشير ريب نايدو إلى أن اثنين من أكثر الأندية الواعدة في تاريخ جنوب إفريقيا، ناديا Moonlighters FC، في جوهانسبرج، وManning Rangers في ديربان، كلاهما خرجا من مجتمع كرة القدم الهندي الناشئ الذي رعاه غاندي وزملاؤه.

نايدو الجد، رفيق غاندي، كان المؤسس لنادي Manning Rangers الذي توج بلقب أول بطولة دوري احترافي في جنوب إفريقيا الجديدة تحت قيادة مانديلا في 1997، قبل أن يمر النادي ببعض الأزمات المالية ويتحول اسمه لاحقا إلى Ikapa Sporting ويهبط للدرجات الأدنى.

توضح الوثائق أيضا أن أول فريق كروي في جنوب إفريقيا "كريستوفر كونتيننت" تأسس بمباركة من غاندي إذ كان يرعاه زميله في الإضراب العمالي الشهير عام 1903، ألبرت كريستوفر.

وبعد عودته للهند، رتب غاندي للفريق جولة إلى بلاده، من نوفمبر 1921 إلى مارس 1922، ولعبوا خلالها 14 مباراة في عدة مناطق من البلاد، حيث قضى وقتا كبيرا برفقتهم، أثناء زيارتهم إلى مدينة أحمد آباد.

لكن يبدو أن نظرته إلى اللعبة تغيرت قليلا مع مرور الوقت ومع اكتسابه نضج أكبر، أو مع تباعدها عن الهدف الحقيقي وفقا لرؤيته.

ويقول في مذكراته "بالنسبة لي الجسم السليم يعني الشخص الذي ينحني للروح ويكون دائمًا أداة جاهزة في خدمته، هذه الهيئات لا تُصنع في ملعب كرة القدم وإنما في حقول الذرة والمزارع. أود أن أحثكم على التفكير في هذا الأمر وستجدون توضيحات لا حصر لها لإثبات كلماتي".

"يشعر العديد من الهنود المولودين في عهد الاستعمار بالهوس تجاه كرة القدم والكريكيت. قد يكون لهذه الألعاب مكانها في ظروف معينة لكنني متأكد من أنه بالنسبة لنا، الذين سقطوا الآن، لا مجال لها".

"ما هي نسبة الرجال ذوي الكفاءات الفكرية العالية التي سنجدها بين أولئك الذين يلعبون بانتظام لعبة الكريكيت أو من بين العدد الكبير الذين يلعبون كرة القدم؟".

"في الهند، ما الذي نلاحظه فيما يتعلق بالتطور العقلي للأمراء الذين يمنحون وقتهم للرياضة؟ مرة أخرى، ما عدد الرياضيين ذوي القوى الفكرية المتطورة؟ تظهر التجربة أن الرجال المثقفين نادرا ما يكونون رياضيين أيضا".

قد يبدو هناك فرقا واضحا في مساهمة المهاتما في كرة القدم، فبين ترويجه لها في جنوب إفريقيا، ومعاداته لها في الهند، لا يمكن إنكار تمتعه بها على المستوى الشخصي.

شعر "بابو" أنه يمكن تحقيق الوحدة بين الجماهير عن طريق اللعبة، لذا يمكننا أن نطلق عليه "أكثر مشجعي الكرة شهرة في الهند".

** كتب التقرير في أسبوع ذكرى مولد المهاتما يوم 2 أكتوبر.

المصادر:

https://bit.ly/31On4Gy

https://bit.ly/2oiLdXg

https://bit.ly/2VfDw0o

https://bit.ly/30I35YN

طالع أيضا

محامي جينيراسيون يكشف الخطوة المقبلة ضد الزمالك

حوار في الجول.. مدرب زيسكو: الفوز على الأهلي في 2016 غير الفريق

حلم إفريقيا – زيسكو يونايتد.. الأول دائما

تعرف على الموقف النهائي لبث لقاء أسوان والأهلي

أمير مرتضى يرد على جنش بعد "لم أحصل على مستحقاتي"

ناركوس – ثقافة الخوف وصعود كولومبيا

التعليقات