القاتل نداي مولامبا.. رسالة موبوتو الدموية (2)

الثلاثاء، 04 يونيو 2019 - 19:22

كتب : مصطفى عصام

نداي مولامبا

أمام حضور 5000 متفرج فقط في أضعف حضور نهائي بالتاريخ لأي بطولة قارية، كان على لاعبي زائير أن يختاروا.. حمل الحقائب أو الهرب من جحيم موبوتو إلى القاهرة، مولامبا يومها تساءل مع أفضل لاعب في افريقيا عام 1973 "بوانجا تيسمان".. ماذا لو كانت النقود مزورة؟!

بوانجا رد: سأمر إيلونجا فورا أن يكرر فعلته السابقة أمام مصر، وسأواجه موبوتو رجلا لرجل!

طالع الجزء الأول من هنا

الحلقة الثانية والأخيرة من مسيرة نداي مولامبا أحد أعظم لاعبي قارة إفريقيا والكونغو الديمقراطية عبر التاريخ..

كانت مصر صيدا للكاميرات بعد انتصار حرب أكتوبر، وفيما يبدو أن وكالة الأسوشيتد برس قد وجدت ضالتها بأرض خصبة عامرة بالأحداث، فتارة تصطاد زيارة الرئيس نيكسون إلى الإسكندرية بصحبة السادات للتفاوض على الهدنة يناير عام 1974، وتارة أخرى تنقل أول مظاهر الزهو ودخول الرعاية إلى بطولة أمم أفريقيا بنفس العام في مارس. الكاميرات نقلت إعلانات السجائر الأجنبية "Marlboro" أولى إرهاصات الانفتاح السياسي نحو الغرب في بطولة تعج بالدول التي لم تتخلص من آثار الاشتراكية بعد، ومنتخب مضيف ضم لاعبين بروليتاريين من المحلة قلعة العمال ومن الإسماعيلية والترسانة!

الأسوشيتد برس نقلت أيضا كلمات من المعلق الزامبي "دينيس لويوي" أعظم المعلقين الرياضيين بتاريخ القارة ويقطع صوته بالتعليق المصري حسين مدكور، الصوت المصري فاتر لغياب المضيف المفاجئ عن النهائي. أما الصوت الزامبي فكان ملتهبا خائفا من رجل واحد فقط.. من نداي مولامبا.

دينيس لويوي: "مولامبا هو أسرع رجل وطأت قدميه ملعب ناصر الدولي (استاد القاهرة حاليا)، زامبيا فعلت كل شئ وسجلت هدفين، ولكنها تجابه رجل واحد فقط، وصل برصيده من الأهداف للرقم 7، فيما يبدو أن المباراة تتجه للإعادة بعد التعادل في الوقت الإضافي".

ظلمًا أن نقول أفريقيا لم تعرف بعد عن ركلات الجزاء، اللجنة المنظمة رأت بأن ذلك يضفي جزءا من الإثارة تيمنا بنهائي كأس الأمم الأوروبية عام 1968 الذي أعيد مرتين وفازت فيه إيطاليا على حساب يوغوسلافيا.

يقول مويبو إيلونجا: "الـ 5000 متفرج بمصر كانوا يصفرون ويرددون أصوات القردة مع كل مرة نلمس بها الكرة، في مباراة الإعادة مولامبا رد لنا إنسانيتنا وأحرز هدفين نظيفين أنهى بهما اللقاء، ورفعنا الكأس بقلب القاهرة ردا على العنصرية تلك".

مولامبا: "عدنا بالكأس إلى البلاد، ولا نلقى سوى معاملة الأبطال، استضافنا موبوتو في القصر الرئاسي، بعد أن تأهلنا للمونديال وفزنا بكأس أفريقيا، حين مددت يدي لأصافح موبوتو تلقفها أحد المسؤولين بدلا عنه وصافحني بحرارة وسلمني مفاتيح أوصاني أن أقبض عليها بشدة".

ويضيف: "جلسنا في دوائر حول موبوتو وعلى رؤوسنا الطير خوفا من أن يتحرك أحدنا لأنه كان مهووسا بفكرة تعرضه للاغتيال، حين خرجت من القصر وجدت رجلا يهلل لي من بعيد ويقول لي أنظر ما في يدك، إنها مفاتيح سيارة فولفو أحدث من القديمة التي معك.. أحدث سيارة في العالم وبداخل السيارة رسالة كانت شخصية من الرئيس".

رسالة موبوتو الرابعة: "يمكنك الفوز بكأس العالم لتمتلك أسطولا منها"

في سنة واحدة لعق نداي مولامبا المجد، فاز بالدوري والكأس وكأس أفريقيا للأندية بطلة الدوري مع فيتا كلوب، ووصل إلى كأس العالم بألمانيا الغربية وفاز بأمم إفريقيا بل وحاز على لقب أكبر عدد من الأهداف المسجلة ببطولة واحدة قاريا متساويا إلى الآن مع الفرنسي ميشيل بلاتيني والقطري المعز علي.

إلى أين انتهى بلاتيني وسينتهي المعز علي.. خالفهما نداي مولامبا عقب تلك الرسالة.

"من الآن أنتم لستم في سلام، ستدفعون الثمن باهظا لتلك الهزيمة القاسية التي دنست وجه زائير في الأرض، اجعلوا العقوبة على رؤوسكم أنتم فقط ولا تخسروا بأكثر من ثلاثة أهداف أمام البرازيل، أكثر من ثلاثة سيكون أمام كل هدف ثلاث رصاصات في رأس كل فرد من عائلاتكم".

بوانجا تيسمان لـ بي بي سي: "تولى أمر قيادتنا مدير فني يوغوسلافي عبارة عن سمسار فحسب، تركنا في البطولة نغرق أمام الفرق بالمجموعة وتكلف هو فحسب إلى إدارة أعماله الخاصة في معركة الفيفا المحتدمة للرئاسة".

في جناح فندق بفرانكفورت، قبل انطلاق كأس العالم 1974 ببضعة أيام، تحول وجه ملك إمبراطورية adidas الشهيرة هورست داسلر من إشراقة مفعمة بالثقة إلى شيء من الصدمة والرعب بعد أن طالع الصحف الألمانية اليومية التي أشارت لتقدم الإنجليزي ستانلي روس في انتخابات الفيفا، وهذا بالتأكيد سيؤدي لخسارة داسلر الملايين من أرباح شركته بعد أن اختار السباحة ضد التيار وأن يقف مساندا لرجل آخر تقدم للمنافسة من أمريكا الجنوبية.

قطعت تلك اللحظات من الشك والصدمة زيارة ضيف طمأنه بأنه يراهن على الجواد الصحيح، دعا داسلر وقتها ضيفه اليوغوسلافي بلاجوجي فينديك، اليوغوسلافي الذي تمتد به أواصر علاقة وطيدة مع داسلر، سبق له أن أدار منتخب المغرب في كأس العالم 1970 وكان وقتها أول منتخب إفريقي يستخدم منتجات شركة adidas، والآن يتواجد في ألمانيا لتولي منصب المدير الفني لمنتخب زائير.

فعل داسلر بالطبع نفس الشئ من إغداق الهدايا على أبناء موبوتو سيسي سيكو. وردّ بلاجوجي الهدية بأن أعطى له عدد غرف المنافس ستانلي روس ونقل له أخبار التشاؤم التي ملأت الإنجليزي بعد ظهور فرس رهان جديد سيحسم الصراع على منصب رئاسة الفيفا، أحضر داسلر زجاجة من الشمبانيا احتفالا بعصر ستغزو فيه إمبراطوريته عالم كرة القدم إلى الأبد.

دخل منتخب زائير مباراته الأخيرة ضد البرازيل وجميعهم علموا أن حياتهم ترتبط بهذه المباراة ونتيجتها، بعضهم تمنى لو ترجى نجوم البرازيل أن يفوزوا فقط بنتيجة 1-0 لكن ذلك لن يحدث، على الجانب الآخر كانت الأمور شائكة بالنسبة للبرازيل، احتاج المنتخب الفوز بنتيجة 3-0 ليضمن التأهل من دور المجموعات.

قال إيلونجا عن تلك اللحظات :"دخلنا المباراة ونظرنا للاعبين مثل ريفيلينو وجاريزينو كنا متوترين للغاية يمكنك أن تتخيل المشهد، علمنا أننا سنخسر لكن كان يجب أن نتأكد من أننا سنقاتل من أجل حياتنا وحياة أسرنا". فعليا هذا ما حدث، قاتلت زائير في المباراة وتحولوا من منتخب كارثي ضد يوغوسلافيا إلى آخر يضغط البرازيل، لينتهي الشوط الأول بنتيجة 1-0.

"بين شوطي المباراة كنا في مزاج رائع، نحن خاسرون من البرازيل بنتيجة 1-0 فقط".

أعتقد منتخب زائير أن أكبر إنجازاته ستكون خروج البرازيل من البطولة معهم، ثم جاء هدفا رائعا من مسافة 30 ياردة وأخيرا هدف ثالث. ثم احتسب الحكم ركلة حرة مباشرة لمنتخب البرازيل، واصطف لاعبو زائير في حائط للتصدي للكرة، ثم يخرج أحد اللاعبين، إيلونجا، ليسدد الكرة بعيدا عن ريفيلينو وجاريزينو.

لم يفهم أحد ماذا حدث، إلا إيلونجا الذي قال :"رأيت ريفيلنو يستعد وسيفعل ما هو قادر عليه دائما، خمسة خطوات للخلف والكرة من هذه المسافة تعني هدفا، وكنا متأخرين فعليا بنتيجة 3-0، كنا في مشكلة لأن هدفا إضافيا يعني مقتلنا جميعا، فكرت في أمر يضيع بعض الوقت، لذا قمت بالخروج من الحائط وركلها بعيدا، شعرت بالغباء لأن الجماهير بدأت في الضحك من حولي ولاعبي البرازيل، صفرت على الجماهير وسببتهم لأنه من الصعب أن تتذكر كم كنت غبيا، لكنها فضيحة للبراءة الإفريقية".

عاد المنتخب ومولامبا إلى زائير، تم سحب الهدايا منهم وإطلاق سراح أهاليهم، ولكن وضعوا تحت الإقامة الجبرية مدى الحياة، وظل مولامبا يلعب لـ 14 عاما تحت الإجبار لفريق فيتا كلوب حتى اعتزل عام 1988، عاش يفكر كيف يمكنه الهرب بالسيارة الفولفو من زائير، تحت فقر مدقع لأن موبوتو قرر صرف الاهتمام عن الرياضة التي حد قوله دنست وجه زائير.

رسالة موبوتو الأخيرة.. ليست ورقة تلك المرة

في عام 1994، اختارت اللجنة المنظمة لبطولة أمم إفريقيا بتونس أن تكرم نداي مولامبا الهداف الأعظم ببطولات إفريقيا، على الرغم من مشاركته ببطولتين فقط.. كان التكريم رمزيا بميدالية، إلا أن بدأ بعده الجزء الأكثر شقاءا في رحلة مولامبا حتى الوفاة.

في بلدة مولامبا الأم بعد التكريم بشهر في الرابعة فجرا، كسر باب شقته أربعة مسلحين برتبات عسكرية شاهرين الأسلحة بوجهه.

-مولامبا، نحمل رسالة من الرئيس، يريد ميداليتك الشخصية والنقود التي حصلت عليها، كل ذلك ملك لزائير.

أبدى مولامبا اعتراضا ورفض تسليم الميدالية الشرفية، أعقب ذلك ضربة من أحد المسلحين بباطن البندقية على رأسه ثم رصاصتين صوب قدمه اليسرى والتي جلبت المجد لزائير سابقا، حاول ابنه مكايكانا ذو التسع سنوات الدفاع عن أبيه الجريح ودفع الجنود، إلا أن رصاصة في قلبه أنهت كل شيء، وسقط الطفل بجوار الأب مولامبا غارقا في دمائه وتوفي في الحال.

-مولامبا، هل تسمعني.. أحمل لك رسالة من الرئيس..

مولامبا: يكفى رسائل الرئيس، لم يبق لي شيئا بالحياة، أنا محتجز بالمستشفى هنا منذ ثمانية أشهر، والمسلحين المدججين يريدون قتلي، أحب أن تكون تلك الرسالة الأخيرة كمثل سابقتها ولكن لا يخطئ الهدف تلك المرة.

-الرسالة يا مولامبا ليست من موبوتو، الرسالة من رئيس المعارضة، سنقوم بتهريبك الليلة إلى أنجولا برا، وهناك ستنتظرك طائرة إلى جنوب إفريقيا لتبدأ حياة جديدة.

هرب بالفعل مولامبا لأنجولا برا، ولكنه لم يركب الطائرة، واختفت أخباره حتى عام 1998، وسرت شائعة قبل الكان المقام ببوركينا فاسو أن نداي قد قتل بعد انفجار أحد مناجم الفحم في العاصمة الأنجولية لواندا، حيث عثر على آثار جثة مواطن مقاربة له، تعرف عليه أحد العمال الناجين وحكى أنه كونغولي هارب من بطش موبوتو.

أقيمت مباريات المجموعة الثالثة والرابعة في الجولة الثالثة على يومين متتاليين بدقيقة حداد على روحه، مجموعتان شهدتا بيندكت مكارثي وحسام حسن وقد وصلا إلى إحراز 7 و5 أهداف على الترتيب، دون أن يعرفا أنهما ينافسان أحد عمال المناجم على لقب أكبر هدافي بطولة أمم إفريقيا.

-نداي مولامبا عام 2000 لصحيفة محلية بجنوب افريقيا: "أنا حي ولم أمت، هربت من أنجولا إلى جنوب افريقيا برا عام 1995، أقمت عاما في جوهانسبرج، ثم بقية الوقت الآن في كيب تاون، أعمل في مرآب للسيارات، وليلا أشاهد رشيدي يكيني وبابا نجيدا وكل نجوم نيجيريا وجنوب إفريقيا، وطيلة الأمد أتشفى في موت موبوتو بالسرطان في خصيتيه".

في نهاية 1997، حدث انقلاب عسكري بقيادة لوران كابيلا على الرئيس موبوتو الذي هرب لتوجو ثم المغرب، حيث مات هناك ودفن بمقبرة مسيحية، أما مولامبا فظل عاملا بمرآب سيارات وتزوج بجنوب أفريقية، إلى أن اكتشف شخصيته أحد المخرجين ليقدمه بفيلم الذهب المنسي، والذي دعا جوزيف بلاتر أن يدعوه لحضور مباراة الافتتاح بكأس العالم 2010 وكرمه شخصيا.

في مطلع 2019، وعن عمر ناهز الـ 70 عاما، سكنت روح مولامبا.. وظل رقمه صامدا كأعظم هداف لبطولة أمم افريقيا.

يُلقَب مولامبا بالـ "assassin" أو "القاتل".

التعليقات