
المغرب
لم يكن ما تحقق للكرة المغربية في السنوات الأخيرة مجرّد "ضربة حظ"، بل هو ثمرة مشروع وطني شامل بدأ قبل عقدين من الزمن، ارتكز على استراتيجية واضحة، وتخطيط طويل الأمد، واستثمار ذكي في البنية التحتية واكتشاف المواهب داخل وخارج البلاد.
ما بين منتخب أول كتب التاريخ في مونديال قطر 2022، ومنتخب نسائي قوي، ومنتخب أولمبي يقارع كبار العالم، ومنتخب صالات يُصنّف ضمن الأقوى دوليًا، وأخيرا فوز منتخب الشباب بكأس العالم 2025.
تقف تجربة المغرب الكروية اليوم كواحدة من النماذج الفريدة في العالم العربي والقارة الإفريقية، بل على المستوى العالمي، في كيفية بناء مشروع رياضي وطني ناجح ومستدام.
ضربة حظ؟
لم تصل الكرة المغربية في السنوات الأخير بضربة حظ أو محض الصدفة البحتة، بل عن الطريق التخطيط والإدارة المميزة لمشروع كروي أثبت نجاحه الباهر في السنوات الأخيرة.
بدأ المغاربة الاهتمام بتطوير البنية التحتية المتعلقة بالملاعب والمنشآت الرياضية وتحسين الخدمات المقدمة لكافة لاعبي المنتخبات الوطنية.
ونجح المغاربة في تنظيم عدة محافل قارية وعالمية أبرزها كأس العالم 2013، بطولتي كأس الأمم الأفريقية تحت 23 عامًا وكأس الأمم الأفريقية للسيدات 2022، ونسخة كأس العالم للأندية 2022.
كما سينظم كأس أمم أفريقيا 2025 مطلع العام الجديد، ونهائيات كأس العالم 2030 مع إسبانيا والبرتغال.
ولم تكتف المغرب بالبنية التحتية وتنظيم البطولات القارية والعالمية بل عملت على استغلال أفضل المواهب داخل وخارج البلاد.
مشروع قومي
بعد خسارة لقب كأس الأمم الأفريقية 2004، حاولت الكرة المغربية النهضة من جديد، لذلك أصدر الملك محمد السادس قرارا في عام 2007 بإنشاء أكاديمية لكرة القدم تجمع المواهب من كافة أنحاء البلاد.
وعلى مساحة تقارب 18 كيلو مربع في مدينة سلا قرب العاصمة الرباط، افتتحت أكاديمية الملك محمد السادس لكرة القدم بتكلفة قاربت 15 مليون دولار (140 مليون درهم).
وتكونت الأكاديمية من 3 مراحل وهي مرحلة ما قبل التخصص تحت 14 عاما، ثم من 14 إلى 16 عامًا لمرحلة التخصص، وأخيرًا من 16 إلى 18 عامًا، وهي مرحلة التحضير للاحتراف.
تولى المغربي الفرنسي ناصر لاركيت، الذي سبق له العمل في أندية فرنسية مثل لوهافر ومارسيليا كما يتولى حاليًا منصب المدير التقني للمنتخبات السعودية، الإشراف على الأكاديمية، واضعا الأسس الأساسية لـ لبنة المشروع القومي للكرة المغربية، وانضم إليه باسكال ثيولت مدرب نادي كان الفرنسي والمدير السابق لأكاديمية أسيك ميموزا.
تكونت الأكاديمية من 5 مراكز أساسية، أولا مركز الإقامة الذي يضم غرفًا مزدوجة وأخرى فردية، فضلاً عن صالات للنوم الجماعي، ومطبخ وقاعة طعام تتسع لـ100 شخص.
كما يضم المركز التعليمي 10 فصول دراسية، أما المركز الرياضي الذي يشتمل على صالة ألعاب رياضية، عيادة، وحدة علاج طبيعي، وحوض علاجي.
أما المركز التقني يتضمن 5 ملاعب كرة قدم، ثم المركز الإداري الذي يضم مكاتب للطاقم التدريبي والإداري، وقاعة متعددة الاستخدامات ومسجد.
خريجي الأكاديمية
أخرجت الأكاديمية العديد من اللاعبين، إذ بدأت المسيرة مع 1994 لعب آدم النفاتي مع ليل الفرنسي.
وفي جيل 1996، أحمد رضا التكناوتي الذي لعب للوداد المغربي نهضة بركان، وأيضا سطع نجم نايف أكرد الذي بدأ مسيرته مع الفتح الرياضي ينطلق في الدوري الإنجليزي والإسباني.
أما جيل 1997، فيضم يوسف النصيري نجم فنربخشة الحالي وإشبيلية السابق، أيضا حمزة منديل الذي لعب في ليل الفرنسي، وفي جيل 1998 ظهر هشام أبو سفيان الذي لعب من قبل لـ مالقا الإسباني، ولعب أسامة فالوح لـ ستراسبورج الفرنسي من جيل 1999.
أما جيل 2000، ضم أسماءً مثل عبد الواحد وهيب الذي لعب من قبل لـ (لوهافر الفرنسي)، وأيمن مريد (ليجانيس الإسباني)، وعز الدين أوناحي (ستراسبورج ومارسيليا)، وأمين زوحوح (أنجيه الفرنسي).
وحتى جيل 2006، ظهر لاعبون مثلوا أندية في فرنسا وإسبانيا مثل عادل طاهيف (ليجانيس)، علاء بلعروش (ستراسبورج)، أسامة ترجلين (مارسيليا)، أيوب الهمامي (جيرونا)، عمر صادق (إسبانيول)، ياسين الخليفي (ليل).
مواهب المهجر
ذكر تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الجالية المغربية تشكّل واحدة من أكبر الجاليات في العالم، ففي عام 2010، كان هناك نحو 2.6 مليون مولود في المغرب كانوا يعيشون بالخارج، وهو ما يمثل حوالي 10٪ من سكان البلاد.
معظم هؤلاء عاشوا في أوروبا تحديدا فرنسا، تليها إسبانيا وإيطاليا، مع تواجد أقل في بلجيكا وهولندا.
وفي العام الماضي، ذكر تقرير أن المغرب يحتل المرتبة 18 عالميًا والثانية أفريقيًا كدولة منشأ للمهاجرين، وسجلت الهجرة غير الشرعية أكثر من 20 ألف وفاة واختفاء بين 2014 و2022.
كما يستضيف المغرب 148 ألف مهاجر أجنبي، واعترض أكثر من 78 ألف محاولة عبور لأوروبا في 2024، بسبب موقعه كمحور للهجرة بين الشمال والجنوب.
ورغم ارتفاع مستويات التعليم (56% من الشباب يحملون شهادات ما بعد الثانوية)، وصلت بطالة الشباب إلى 37.7% في 2025، وارتفعت نسبة الشباب الراغبين في الهجرة من 20% عام 2017 إلى 28% في 2024، مدفوعة بالبطالة وضعف الحراك الاقتصادي، ما أدي لخروج بعد التظاهرات مؤخرا لتردي الأوضاع الاقتصادية.
وتزامنًا مع كل ما سبق، عمل الاتحاد المغربي على استغلال "مواهب المهجر" التي في الخارج وما أكثرهم في أوروبا تحديدًا، لذلك كان هناك تواصل مع العديد من اللاعبين المغاربة،، ومارس الاتحاد المغربي كل سبل الإقناع لضمهم إلى المنتخبات الوطنية.
مهندس النهضة المغربية
يُعتبر فوزي لقجع، الذي يشغل منصب رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم منذ 11 عاما، المهندس الحقيقي لنهضة الكرة المغربية في السنوات الأخيرة.
التحق لقجع خريج كلية الهندسة الزراعية بنادي نهضة بركان سنة 2000 ضمن الجهاز الفني، ثم أصبح رئيساً له في 2009.
ونجح في إحداث نقلة نوعية في النادي من خلال توفير استقرار مالي وجلب رعاة جدد، وقاد النادي للصعود إلى الدوري المغربي، وحرص على تطوير بنيته التحتية، بما في ذلك إنشاء مركز ناشئين خاص بالمواهب الشابة.
في 2014، تم انتخابه رئيسًا للجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، إذ أطلق خطة شاملة لإصلاح البنية التحتية بما في ذلك إنشاء مجمع محمد السادس لكرة القدم الذي افتتح في 2019.
كما عمل على تطوير الأندية المحلية على المستويين الاحترافي والهواة، مع التركيز على فئات الشباب، مع العمل على ضم المواهب المغربية خارج البلاد، وتحول المغرب في عهده إلى قوة كروية إقليمية وعالمية.
لقجع تولى مناصب قيادية في كاف وفيفا، وشارك في تنظيم بطولات مهمة، كما قاد ملف العرض المشترك بين المغرب وإسبانيا والبرتغال لاستضافة كأس العالم 2030.
مربع الذهب
في مونديال 2022، لم يكن يتوقع أحد أن يصل أسود الأطلس إلى الأدوار المتقدمة في البطولة، بعد وقوعه ضمن مجموعة صعبة ضمت بلجيكا وكرواتيا، اللتان حققتا الوصيف وصاحب البرونزية في نسخة روسيا 2018.
فاز المغاربة على 3 منتخبات عملاقة هي بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، ليصبح أول منتخب عربي وإفريقي يصل المربع الذهبي للبطولة الأكبر في التاريخ.
يقود المنتخب المغربي المدرب وليد الركراكي، الذي وُلد في فرنسا ولعب سابقًا مع المنتخب المغربي كلاعب دولي، قبل أن يحقق الإنجاز الأكبر في تاريخ أسود الأطلس.
كما يبرز أشرف حكيمي، نجم باريس سان جيرمان المولود في إسبانيا، كما يمكنه تمثيل فرنسا، لكنه اختار الدفاع عن ألوان بلده الأم، كما ولد رومان سايس في فرنسا.
حكيم زياش، نجم تشيلسي السابق الذي ولد في هولندا وأيضا نصير مزاوي وسفيان أمرابط اللذان ولدا بنفس البلد، كعما ولد ياسين بونو حارس عرين الهلال في كندا، أما سفيان بوفال فقد ولد في فرنسا.
فوتسال سيدات الأطلس والأولمبياد
واصلت المنتخبات المغربية تحقيق إنجازات لافتة قاريا وعالميا، إذ يُعد منتخب المغرب لكرة الصالات من أقوى المنتخبات في العالم، إذ يحتل منذ مايو 2024 المركز السادس عالميًا، والأول عربيًا وإفريقيًا حسب تصنيفات "فيفا" و"كاف".
وحصد المغاربة كأس الأمم الإفريقية 3 مرات في السنوات الأخيرة، كما فاز بكأس العرب 3 مرات، إلى جانب تتويج التاريخي بكأس القارات 2022، ليصبح أول منتخب عربي وإفريقي يحقق هذا الإنجاز.
وفي عام 2023، توج بلقب أفضل منتخب في العالم من قبل موقع "فوتسال بلانيت"، كما سجل أطول سلسلة مباريات دون هزيمة في تاريخ اللعبة بلغت 50 لقاء تحت قيادة المدرب هشام الدكيك.
أما منتخب المغرب للسيدات، حقق نهضة كبيرة في السنوات الأخيرة، إذ بلغ نهائي كأس أمم إفريقيا مرتين متتاليتين في 2022 و2024.
كما تمكن من التأهل إلى مونديال السيدات 2023، ونجح خلال مشاركته الأولى في الوصول إلى دور ثمن النهائي.
وحقق منتخب السيدات الانتصار على كوريا الجنوبية بهدف دون رد، ليكون ثاني منتخب إفريقي بعد نيجيريا يحقق فوزًا في تاريخ كأس العالم للسيدات.
تألق المنتخب المغربي الأولمبي إلى الواجهة تنظيم كأس أمم إفريقيا 2023، التي غاب عنها لمدة 12 عامًا.
وافتتح المنتخب المغربي تحت قيادة طارق السكتيوي مشواره بالفوز على غينيا ثم اكتسح غانا بخماسية وفوز آخر على الكونغو ليتصدر مجموعته، وبعد تجاوزه منتخب مالي ضمن تأهله إلى أولمبياد باريس 2024.
نجح أسود الأطلس في تحقيق اللقب القاري لأول مرة في تاريخه بعد الفوز على مصر 2-1، وواصل المغرب التألق في أولمبياد باريس بعد الانتصار على الأرجنتين والعراق.
وفي دور ربع النهائي، سحق أمريكا برباعية مدوية قبل أن يخسر بصعوبة أمام إسبانيا في نصف النهائي بنتيجة 2-1.
حقق أسود الأطلس أول ميدالية أولمبية في تاريخ كرة القدم المغربية، بعد الفوز على مصر بسداسية نظيفة في مباراة تحديد المركز الثالث ليحصد الميدالية البرونزية.
إنجاز يليه عهد مظلم
برز جيل واعد للمنتخب المغربي تحت 20 سنة تحت قيادة المدرب فتحي جمال، في بداية الألفية الجديدة تحديدا عام 2005، ليحقق المركز الرابع في البطولة التي استضافتها هولندا، ويحقق انتصارات رائعة على اليابان وإيطاليا.
بعد ذلك، دخل منتخب الشباب المغربي فترة مظلمة بين 2006 و2019، إذ فشل في التأهل للنهائيات القارية والعالمية، وارتكز نشاطه على المنافسات الإقليمية مثل بطولة شمال إفريقيا والمباريات الودية دون نتائج ملموسة على المستوى القاري والعالمي.
وخلال العقد الأخير، استعاد منتخب المغرب تحت 20 عامًا بعض بريقه بالوصول إلى ربع نهائي كأس الأمم الأفريقية، وصل الفريق إلى ربع النهائي وخسر أمام تونس بركلات الترجيح بعد تعادل سلبي.
وفي النسخة الأخيرة، وصل المغرب إلى نهائي البطولة وخسر أمام جنوب إفريقيا، لكنه تأهل إلى كأس العالم تحت 20 عامًا في تشيلي.
في كأس العالم 2025، حقق المغرب معجزة كروية بتحقيقه اللقب العالمي بعد أداء رائع من الجهاز الفني واللاعبين.
وقال فتحي جمال لـ موقع فيفا: "الجانب المشترك بين جيل تشيلي 2025 وجيل هولندا 2005 هو حب اللاعبين للوطن ورغبتهم الصادقة في تمثيله بأفضل صورة، كلا الجيلين يتمتعان بشغفٍ كبير وعزيمة على النجاح، ولديهما موهبة واضحة وقدرة على تقديم مستوىً عالٍ على أرض الملعب".
وأضاف "هناك أسماء من هذا الجيل قادرة على الالتحاق بالمنتخب الأول مستقبلًا، لكن يجب أن نكون موضوعيين، فهم ما زالوا صغارًا وأمامهم مشوار طويل للنضج والتطور، الهدف الأساسي هو أن نرى عددًا كبيرًا منهم يمثل المنتخب الأول بحلول كأس العالم 2030".
متعة مغربية خالصة
وقع أسود الأطلس في المجموعة الثالثة التي صُنفت كـ"مجموعة الموت" بجانب إسبانيا والبرازيل.
استهل المنتخب المغربي مشواره بفوز رائع على إسبانيا بطل أوروبا بثنائية، كما فاز على السامبا بنتيجة 2-1، على البرازيل، قبل أن يخوض المباراة الثالثة بتشكيلة مغايرة بعد ضمان التأهل، ويتعرض لهزيمته الوحيدة في المونديال أمام المكسيك.
وفي الأدوار الإقصائية، واصل المغرب عروضه القوية، إذ أطاح بكوريا الجنوبية في دور ثمن النهائي بعد الفوز بنتيجة 2-1، ثم تخطى أمريكا في ربع النهائي بالانتصار بنتيجة 3-1، قبل أن يحقق انتصارًا صعبًا على فرنسا وصيفة أوروبا في نصف النهائي بركلات الجزاء 5-4 بعد التعادل السلبي.
وجاءت المباراة النهائية أمام الأرجنتين، المرشح الأبرز للفوز بالبطولة، لتكون تتويجًا لمسار مميز، إذ تفوق أسود الأطلس بثنائية نظيفة، محققًا إنجازًا غير مسبوق عربياً.
تحت قيادة محمد وهبي، قدم المغرب أداءً رائعًا استحق إشادة الجميع، وتألق العديد من اللاعبين أبرزهم فؤاد الزهواني، علي معمر.
وتميّز المدافع إسماعيل باعوف بأداء دفاعي خارق، إذ كان اللاعب الوحيد في البطولة الذي لم يُراوغ مطلقًا، رغم خوضه كل دقائق المباريات.
تُوّج عثمان معما بجائزة أفضل لاعب في كأس العالم للشباب، بعد أداء استثنائي إذ تصدّر قائمة صانعي الأهداف بـ4 تمريرات حاسمة، إضافة إلى خلقه 5 فرص محققة للتسجيل.
كما قدّم أفضل ثاني لاعب في المونديال، المهاجم ياسر الزبيري بطولة متميزة، إذ سدد 15 كرة، بينها 5 على المرمى، ترجمها جميعًا إلى أهداف.
وسجل الزبيري أهدافًا حاسمة في شباك إسبانيا، البرازيل، وكوريا الجنوبية، كما سجّل ثنائية رائعة في النهائي أمام الأرجنتين، كما تسبب في 3 أهداف عكسية لصالح المغرب أمام الشمشون الكوري، أمريكا، وفرنسا.
نرشح لكم







