الحياة أكثر من مجرد لعب كرة القدم.. أنا سقراط وهذه قصتي

الثلاثاء، 04 ديسمبر 2018 - 15:31

كتب : لؤي هشام

سقراط

في ذلك اليوم كنت ألعب كرة القدم منذ الصباح الباكر رفقة أصدقائي في الشارع ومع غروب الشمس شعرت بالإنهاك وقررت العودة إلى المنزل. حين اقتربت من الباب وجدت شيئا غريبا.

كان هناك بعض الدخان المتصاعد من قبو المنزل، ظننت أنه حريق وقررت النزول لكي أعرف ما يحدث، وعندها فوجئت بوالدي يقف وأمامه العديد من الكتب الملقاة على الأرض والنيران تأكل في صفحاتها شيئا فشيئا.

كان أحد تلك الكتب يحمل عنوان (لينين والثورة البلشفية)، والنيران بدأت تتصاعد أكثر وأكثر حتى بدأ هذا العنوان في التآكل، سرعان ما غادرت قبل أن يلحظ والدي الأمر ولكن منذ ذلك اليوم تغيرت الكثير من الأشياء.

كنت في العاشرة من عمري حينذاك، ولم أفهم ما حدث ولكن علمت لاحقا سبب حرق والدي لتلك الكتب.. انقلاب عسكري حدث في بلادي والقبضة الديكتاتورية الدموية كانت تدهس كل ما هو معارض لها تحت جنزير دباباتها.

عند هذه النقطة بدأ اهتمامي بالسياسة، والحقيقة أن كرة القدم أتت بالصدفة.

اقرأ أيضا - (فصل في رواية تحرر الجزائر.. أنا مخلوفي وهذه قصتي)

كنت طفلا يعيش في ديكتاتورية وأنظاري اتجهت إلى الظلم الاجتماعي في البلاد بذلك الوقت. ما لابد أن تدركوه جيدا أن الحياة بالنسبة لي كانت أكثر من مجرد لعب كرة القدم.

يالحماقتي، نسيت أن أعرفكم بنفسي: أنا سوكراتيس برازيليرو سامبايو دي سوزا فييرا دي أوليفيرا، يمكنكم أن تدعونني سقراط.

ربما تعرفونني كلاعب كرة قدم. أحببت ممارسة تلك اللعبة كثيرا، ملامسة الكرة لقدماي كانت تُشعرني وكأنني عصفور يُغرد خارج قفصه، وكأنني غزالة ترقص وتركض في البراري الواسعة بكل أريحية ودون شعور بالخطر أو التهديد.

صراحة، أحببت لعب كرة القدم ولكن لم أحبب الحديث عنها، فقد كان هناك ما هو أهم وأجدر بالنسبة لي.

شهرتي كانت كبيرة وواسعة، كنت واحدا من أمهر اللاعبين البرازيليين وأشهرهم. لم أكن أفضل لاعب في تاريخ بلادي أو حتى فريقي ولكني كنت المثال الأكثر تفردا من بينهم.

بدأت مسيرتي مع فريق بوتافوجو وشاركت معه في أكثر من 200 مباراة، بعدها انتقلت إلى كورنثيانز ولعبت ما يقرب من العدد السابق ذكره، مررت بفيورنتينا ولكن لم استمر طويلا وعدت إلى فلامنجو ومنه إلى سانتوس ثم بوتافوجو مجددا.

ارتديت القميص الأصفر رفقة السيليساو وكنت ضمن عناصر المنتخب البرازيلي الذي سموه: أفضل جيل من اللاعبين لم يحقق أي بطولة.

ولكن ذلك لن يكون محور حديثي اليوم.. قالها ودخان السيجار في فمه يتصاعد فوق وجهه صانعا ما يشبه قناعا من الأبخرة وفي يده اليمنى كأسا من الويسكي.

أوقف المُسجٍّل بضغطة زر، ليرتشف بعضا مما في الكأس ثم سحب نفسا عميقا من السيجار الكوبي ليُنعش إدمانه لتلك المادة ويوقف تزاحم الأفكار في رأسه، قبل أن يضغط على الزر مجددا ويبدأ في استكمال حديثه.

اعترف أن نشأتي كواحد من أبناء الطبقة المتوسطة، وتحت رعاية أب مثقف وقارئ هي من جعلتني الشخص الذي تعرفونه اليوم.

لم أكن ككثير من أبناء جيلي اللاعبين الذين طحن الفقر معيشتهم قبل أن تمنحهم تلك الكرة المدورة سببا للاستمتاع بالحياة وتقدير المال جيدا، ولم يكن الكثير منهم طبيبا بالأساس يمارس كرة القدم كهواية أو يكتب مقالات سياسية واقتصادية في الصحف كحالي.

الكرة لم تمنعني من ممارسة مهنتي الأساسية، والتواجد في عيادتي لمعالجة الكثير من فقراء أُمتى الذين كانوا بين فكي الأوضاع الاقتصادية السيئة والأوضاع السياسية الأكثر سوءا. مسيرتي الكروية بدأت بالأساس في عمر 24 عاما بعدما أنهيت دراستي الجامعية.

حسنا، سأتجاوز العديد من الأعوام في مسيرتي وحياتي قافزا إلى تلك الفترة التي اعتبرها بلا شك الأكثر ثراءً في حياتي والتي جعلتني الشخص الذي تعرفونه اليوم سواء كإنسان أو كناشط سياسي أو أي شيء آخر تعلمته في حياتي.. ديمقراطية كورنثيانز.

في أحد المرات قلت للصحافة: "هم لا يريدونني أن أشرب أو أدخن أو أفكر؟ حسنا، سوف أشرب وأدخن وأفكر" ومن هذا المنطلق يمكننكم إدراك شخصيتي جيدا.

على سبيل المثال كنت في فلورانسا لمدة عام رفقة فيورنتينا وفي بعض الأحيان لم أكن أرغب في التدرب، كنت أرغب مثلا في حضور حفلة ما أو التسكع مع بعض الزملاء أو التدخين، هناك الكثير في الحياة أكثر من مجرد لعب كرة القدم، لذا لم استمر طويلا بإيطاليا.

أنا شخص يُقدس الحرية كثيرا، وديمقراطية كورنثيانز كانت النبتة التي غُرست بذورها في أرض الملعب لتصبح مصدر إلهام لقضية أمة بأكملها، قضية آمنت بها فأعطت لحياتي معنى آخر.

الفكرة بدأت برفقة زميلي في الفريق فلاديمير دوس سانتوس ذلك الظهير أسمر البشرة بشوش الوجه اللطيف مع الجميع، واخصائي علم النفس خريج جامعة ساوباولو إديلسون مونتيرو ألفيش الذي كان مسؤولا عن إدارة الفريق الرياضي بالنادي في ذلك الوقت، وتحت رعاية فلاديمير بيرس رئيس النادي.

كان ذلك في عام 82. لم نكن نعرف ما نحن مُقبلين عليه ولكن فقط شعرنا أننا بحاجة لكسر تلك الحواجز فيما بيننا، للتناقش والحديث عما هو أفضل، لمحاولة الوصول إلى حل أفضل.

لم نكن نُدرك في البداية أن ما فعلناه سيكون له كل ذلك التأثير الذي حدث، نحن فقط شعرنا أننا بحاجة إلى مثل تلك الأشياء: أن يكون لنا جميعا رأيا وأن يُصبح له قيمة.

تحت وطأة الديكتاتوريات يُمكنهم أن يصنعوا منك شخصا آخر.

شخص ربما لم تعرف أنه بداخلك، شخص قادر على أن يتناسى ذكرياته وآماله خوفا من التعرض للضرر، شخص ربما يصنع اهتمامات جديدة دون أن يُدرك حتى أن تلك الأشياء كان يكرهها في الماضي.

لذا قررنا أن نتمسك فقط بذلك الثقب الصغير في الجدار الذي نشتم منه رائحة هواء البحر ونستشعر معه بحبات الرمل تلامس وجوهنا، فقط قررنا ذلك من أجل أن نسترجع تلك المشاعر التي تمنحك ذاك الإحساس بأنك بينك وبين نفسك فعلت ما يستحق الذكر.

أتذكر ذلك الاجتماع الأول للفريق جيدا، كنا في بداية الموسم وكان من المفترض أن يستمر بين 15 إلى 20 دقيقة فقط ولكنه دام لساعات. قلت لهم: سنقرر كل شيء كمجموعة، هذا ما نفتقده.

ولكن هذا الاجتماع دام لساعات بدلا من عدة دقائق :) البعض بدأ في التململ وعدم التركيز والبعض الآخر غادر ولكننا لم نتوقف عن الحديث، لم نتوقف عن الكلام والكلام والكلام، كان شيئا مثيرا وحماسيا أن تنتناقش مع بعضنا البعض لكي نتوصل إلى طريقة عملنا كمجموعة.

الكل كان يعطي رأيه ويعبر عن مشاعره، ليس اللاعبين فقط بل الجميع: إداريون، أطباء، عمال غرف الملابس، ومدربون. الجميع الجميع، والرأي صاحب عدد الأصوات الأكبر يفوز.

رجل واحد، صوت واحد. كرة القدم تحولت إلى نموذج من الجمال، والأمر لابد أنه أثار جنون تلك الديكتاتورية العسكرية.

سأحكي لكم قصة لطيفة حدثت مع بداية هذا الأمر: كنا نستعد للسفر إلى جولة في اليابان، وكان يتعين علينا السفر لما يقرب من 30 ساعة. كاسا جراندي زميلنا في الفريق كان قد تعرف على صديقة جديدة قبل أيام وأراد الرحيل.

قال لنا: لا أرغب في السفر كل هذه المسافة، أرغب في العودة إلى صديقتي، عندها قررنا أن نلجأ إلى التصويت لتحديد الأمر، فلاديمير دوس سانتوس أعلنها صراحة: رأيي هو لا، لقد تركت زوجت وأولادي خلفي وأرغب في رؤيتهم ولكننا محترفون في النهاية ويتوجب علينا السفر.

الجميع شارك سواء عمال أو مدربون أو حتى حراس، البعض قال لا والبعض قال نعم ولكن في النهاية أغلبية التصويت اختارات لا، وجراندي كان مجبرا على السفر معنا :)

هل تعتبرون هذا الموقف مضحكا؟ حسنا، سأخبركم بما هو أكثر من ذلك. الأمر وصل إلى أننا كنا نصوت بشان إن كانت حافلة الفريق عليها التوقف كي نذهب لقضاء حاجتنا أم لا :D في بعض الأحيان كانت الأغلبية لا ترغب في التوقف، لذا كان على البعض محاولة التماسك حتى وصولنا لمقر النادي :D

كنا أشبه بمجموعة دراسية إذ كنا نتناقش في الفلسفة والسياسة والأدب أيضا، وتواجد برفقتنا طبيبا نفسيا لعقد الجلسات مع من يحتاج إلى ذلك.

في بعض الأحيان كنت أشعر بالملل، كنا نصوت وأدعو بعض الموسيقيين والمغنيين وصانعو الأفلام إلى النادي ونتناقش معهم يومي الجمعة أو السبت، والحقيقة أنني إن خضت نقاشا جيدا ليلة السبت فإني ألعب بشكل جيد يوم الأحد، قالها لي رئيس النادي يوما.

لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة والعديد كانوا ضدنا: الصحافة، رجال الأعمال في ساوباولو، حتى بعض الجماهير التي ظنت أننا فوضويين.. الجميع كان ضد كورنثيانز وديمقراطيته.

بعض الكتاب الرياضيين كانوا دائما ما ينتقدوننا، فقط لأننا نؤمن بالديمقراطية، أثار ذلك سخط العديد تجاهنا، ولكننا قررنا رفع راية التحدي، وكلمة الديمقراطية طُبعت على ظهور قمصاننا.

أكسبنا ذلك تعاطفا من قبل العديد من اللاعبين، الكل كان يرغب في اللعب لنادينا. حول تلك الكلمة كانت تتناثر قطرات من الدم حول القميص، ويمكنكم أن تدركوا المغزى ؛)

في الخامس عشر من مايو 82 كان يتوجب إجراء أول انتخابات في البلاد منذ الانقلاب العسكري في 62، لم نكن واثقين بالأساس إن كان العسكر سيسمحون بإقامتها.

والشعب البرازيلي لم يكن قد عايش حدثا مثل ذلك منذ فترة كبيرة، لم يعرفوا التصويت ربما سوى مرة واحدة قبل عدة عقود، كانوا متخوفين من التصويت مرة أخرى.

وحينها قررنا ارتداء قمصان كُتب عليه "صوتوا في الخامس عشر" - dia 15 vote - داعين الشعب البرازيلي للمشاركة في أول انتخابات منذ انقلاب 64، والكثير منهم شعر بالجرأة بعدما رأى مجموعة من اللاعبين يرفعون ذلك الشعار.

كنا مجموعة موهوبة من اللاعبين وسجلنا العديد من الأهداف، لذا كانت الصحف حينما تنشر صورنا على أغلفتها يجد الناس جملة "صوتوا في الخامس عشر".

هدفنا كان دعوة أكبر عدد ممكن لتلك الانتخابات فكلما شارك عدد أكبر كلما تأذيت الديكتاتورية بشكل أكبر.

وبالفعل شارك العديد من الناس في تلك الانتخابات، والديكتاتورية خسرت في أنحاء عديدة من البلاد: ساوباولو، ريو دي جانيرو، ميناس، برازيليا، فورتاليزا.. المعارضة انتصرت.

في أخر أيام الموسم ذهبنا إلى الملعب ونحن رافعين تلك اللافتة الشهيرة: "انتصروا أو انهزموا، ولكن بالديمرقراطية" أمام 40 ألف مشجع، كنا نحاول دفع البلاد صوب انتخابات رئاسية.

حققنا بطولة ساوباولو المحلية وقد كانت البطولة الأكبر في ذلك الوقت، وعند التتويج وقفت في ميدان الكاتدرائية أمام مليوني شخص وتملكتني الجرأة كي أقول إنه إن تمت الموافقة على الانتخابات الرئاسية فلن أذهب إلى إيطاليا وسأبقى في البرازيل.

حينها انفجر الحضور جميعهم في الصراخ مهللين، واندفع الأدرينالين في دمائهم ودمائي.

كان انتقالي إلى فيورنتينا قد تم التفاوض عليه وتتبقى بعض الرتوش الأخيرة ولكن كم لاعبا تعرفونه قد يوقف احترافه بإيطاليا بسبب تعديلات دستورية؟! :)

في النهاية كانت حركة ديمقراطية كورنثيانز هي من أشعلت الروح مجددا في البرازيليين لتُنعش آمالهم وتجدد أحلامهم مرة أخرى بعد عقود من الاستسلام للصمت واليأس.

وقبل كل ذلك فإن الجمال بالنسبة لي يأتي أولا ومن بعده يأتي النصر.

ربما أشبه تشي جيفارا في الشكل ولكن كما آمن هو أن السلاح سبيل التغيير فقد آمنت أن كرة القدم هي الطريق الأمثل.

أعتذر إن أطلت عليكم.. أنا سقراط وهذه قصتي.

اطفأ زر التسجيل ثم سحب نفسا عميقا من سيجاره، قبل أن يرتشف جرعة كبيرة جعلت كأسه فارغا، وغادر تلك الغرفة.

**كُتب هذا التقرير في الذكرى السابعة لوفاة سقرط.

*القصة من خيال الكاتب ولكنها بُنيت على معلومات حقيقية نُقلت عن عدة مصادر مختلفة:

اقرأ أيضا:

أول رد من الزمالك على تصريحات سيد عبد الحفيظ

جريزمان: الغياب عن حفل الكرة الذهبية عار

أحمد حسن: أشكر اتحاد الكرة.. وهذا موقف أنطوي وخربين وإسلام عيسى

وكيله: مؤمن تلقى عروضا ولكنه لم يفكر إلا في التجديد للأهلي

لاعبون جمعوا بين جائزتي الكرة الذهبية والأفضل في العالم.. مورديتش يجاور العظماء

مصير صفقة محمود وحيد.. كيف يفكر المقاصة مع تمسك الأهلي بـ أحمد الشيخ

التعليقات