برشلونة 1986 - شجاعة أوروتي التي جففت دمع كاراسكو

الخميس، 29 نوفمبر 2018 - 17:36

كتب : زكي السعيد

برشلونة 1986

1 يوليو 1978.. جوسيب يويس نونيز بات رسميا الرجل الأول في نادي برشلونة. 7 سنوات كانت أقصى صمود لأي رئيس سبقه.. نونيز سيظل على عرش كتالونيا 22 عاما.

في ذكرى تأسيس نادي برشلونة، دعونا نتذكّر واحدة من أكثر حقبه التاريخية إثارة في ثمانينيات القرن الماضي

في ذلك الصيف رحل يوهان كرويف عن صفوف الفريق، ورغم بعض اللحظات الثورية التي صنعها المايسترو رقم 14 في برشلونة، إلا أن حصاد السبعينات لم يكن مجزيا.

ولأجل الدخول إلى عقد الثنانينيات بشخصية أقوى، قام نونيز باستقدام إنريكي كاسترو "كيني" من سبورتنج خيخون، هداف الدوري الإسباني 3 مرات سابقة حاول الانضمام إلى برشلونة لسنوات طوال أمام مقاومة شرسة من فريقه سبورتنج خيخون.. أخيرا وفي عمر الـ31 كيني حقق حلمه وبات لاعبا لبرشلونة.

نونيز استغل الجيل الذهبي لبوروسيا مونشنجلادبخ في السبعينيات واستفاد منه بالصورة القصوى، أحضر نجمه الدنماركي آلان سيمونسن، وأغرى مدربه الماكر أودو لاتيك بالحضور وترميم برشلونة في 1981 بعد سنوات من الضياع، فمنذ رحيل هيلينيو هيريرا عام 1960، لم يتوج برشلونة بالدوري الإسباني سوى مرة واحدة.

هيريرا نفسه كان قد عاد وقاد برشلونة لمسيرة كادت تنجح في دوري الموسم السابق -1980\1981-، الفريق وصل إلى المركز الثاني بحلول الجولة 24 بعد انطلاقة بطيئة، وبات متاخما لأتليتكو مدريد المتصدر في انتظار تعثره لاقتلاع الصدارة.

في الجولة 26 وقبل جولة واحدة على مواجهة أتليتكو المرتقبة لخطف قمة الجدول، سحق برشلونة نظيره إيركوليز بسداسية نظيفة، وأثناء مغادرة الهداف كيني –الذي سجل هدفين- لملعب كامب نو بعد المباراة، تم اختطافه بواسطة مجهولين طلبوا فدية في وقت لاحق.

كيني قبع في أسره شهرا إلا 5 أيام، وحين تم تحريره بواسطة الشرطة في الخامس والعشرين من مارس 1981، خرج ليطالع جدول الترتيب ويُدهَش دهشة أهل الكهف بعد أن أفاقوا من سباتهم.

برشلونة وفي غياب هدافه الأبرز خسر أمام المنافس المباشر أتليتكو مدريد، خسر أمام سالامانكا، تعادل أمام سرقسطة، وبعد ظهور كيني بيومين خسر الكتلان بثلاثية نظيفة أمام ريال مدريد.

كيني سجل مرتين فقط حتى نهاية الموسم، لكنه تمكن من تتويج نفسه هدافا لليجا للمرة الرابعة في مسيرته برصيد 20 هدفا، متفوقا على خوانيتو لاعب ريال مدريد صاحب الـ19 هدفا.

بالعودة للألماني لاتيك، فيجدر القول أنه كان رجلا خبيرا، جلب لبايرن ميونيخ دوري الأبطال الأولى في تاريخهم عام 1974، وامتلك في فريقه الجديد مجموعة مواهب مميزة، كمواطنه بيرند شوستر، فيكتور مونيوز الذي لا يكف عن الركض في خط الوسط، فرانثيسكو كاراسكو المراوغ الذي لا يعرف الرحمة، وفي الخلف يقف الباسكي الرائع خوسيه رامون أليسانكو وإلى جانبه المخضرم ميجيلي أحد رموز الدفاع في كتالونيا.

أما الصفقة التي لم تشغل الكثيرين، فكانت استقدام خافيير أوروتيكويتشيا حارس مرمى إسبانيول، أوروتي صاحب الـ182 سم بدأ مسيرته في ريال سوسيداد ولم يقدر على منافسة لويس أركونادا، فشق طريقه بمقاطعة كتالونيا.

إلا أن لاتيك تلقى نبأ مؤلما بعد 26 دقيقة من مباراة سان ماميس أمام أتليتك بلباو في فترة الأعياد لعام 1981، بيرند شوستر يخرج برباط صليبي مقطوع بعد تدخل اعتيادي من الجزار أندوني جويكوتشيا. الكتلان سيجبَرون على إكمال موسمهم دون موهبة الوسط الألمانية.

بحلول الجولة 28 (قبل 6 جولات على النهاية) بدا أن برشلونة في طريق مفتوح لاستعادة لقب الدوري الغائب، قبل أن تقع الكارثة، الفريق خسر 4 مرات وتعادل مرتين في الجولات الست المتبقية، وأهدى لقب الدوري لسوسيداد على طبق من ذهب.

ورغم الإحباط المحلي، لملم لاتيك جراح فريقه وقادهم للفوز بكأس الكؤوس الأوروبية في مايو 1982 على حساب ستاندر دو لييج البلجيكي، المباراة الغريبة التي انتهت 2-1 عرفت حدثين بارزين، الأول هو هدف الانتصار بواسطة كيني والذي لم تلتقطه الكاميرات بعد أن نفذ الكتلان ركلة حرة مباشرة بشكل سريع أمام دهشة المدافعين البلجيك. والحدث الثاني هو مشهد إهدار الوقت السريالي الذي نسجه كاراسكو إلى جانب الراية الركنية.

كاراسكو حرم لاعبي الخصم من الكرة لعدة دقائق ودفع فالتر ميوس للخروج مقصيا بالبطاقة الحمراء بعد أن فقد البقية الباقية من صبره.

عودة للكرة الرومانسية

في 1983، قرر نونيز توفير أجواء أكثر راحة لنجمه دييجو أرماندو مارادونا الذي حضر قبل عام، فتعاقد مع المدرب الأرجنتيني سيزار لويس مينوتي.

مينوتي بطل العالم 1978 امتلك سياسته الصارمة في لعب الكرة الجميلة المليئة بالفنيات، وساعدته عناصره على ذلك.. في المقابل وبإقليم الباسك الشمالي البارد، الشاب خافيير كليمنتي صاحب الـ33 عاما كان الشخص الجالس على كرسي القيادة الفنية لأتلتيك بلباو.

كليمنتي تبنى شخصية الـ "Villain" في الرواية، ولكنه الشرير الذي تقع في حبه، لأنه ينتصر في النهاية.. كان نقيضا لمينوتي، اعتمد على الحمية الباسكية في لاعبيه واندفاعهم البدني وبنيتهم الجسدية الفارعة، كان صاحب رسالة حاله حال مينوتي، وبطلا في الباسك بقيادته للفريق نحو الظفر بلقب الدوري في الموسم السابق بعد أن غاب عنهم التتويج منذ 1956.

في مباراة الفريقين يوم 24 سبتمبر 1983 وقعت الكارثة، مارادونا حاول تهدئة الثور الهائج جويكوتشيا، فبطش به جويكو بعد دقائق، وتركه ملقى على عشب كامب نو بكاحل مكسور.

كليمنتي سخر من مارادونا بعد المباراة واستهزأ بإصابته، قال أنه سينتظر لنهاية الأسبوع حتى يتأكد فعلا من هول الإصابة، لم تكن إلا البداية في سلسلة تصريحات نارية متبادلة بين الطرفين.

في مباراة الدور الثاني، وبعد أن تعافى الأرجنتيني بشكل مبهر، سجل مارادونا هدفين في شباك بلباو، ملحقا بهم الهزيمة الوحيدة على أرضهم ذاك الموسم. تلك المباراة شهدت ارتكاب ما يزيد عن الـ50 مخالفة ووُصفت بأنها واحدة من أعنف المباريات في الدوري الإسباني على الإطلاق، اختلط فيها الوحل بالدماء على أقدام اللاعبين، وأثارت غضبا كامنا في نفس مشجعي بلباو.

حافظ بلباو على لقبه في الدوري، إلا أن جماهيره لم تقبل بالخسارة ذهابا وإيابا أمام برشلونة.. الحرب الكلامية اشتعلت، إنه الصراع الكلاسيكي التقليدي بين ما يُسمى بالكرة الجميلة ونظيرتها القبيحة، صراع عقائدي لا يتمحور حول الفوز والخسارة، فمينوتي يعتقد أن لاعبي بلباو يبطشون بمنافسيهم لأنهم لا يقدرون على لعب كرة القدم، وكليمنتي اعتبرها إهانة.

مارادونا يصف كليمنتي بـ"المفتقد للرجولة"، وكليمنتي يرد على مارادونا: "أنت غبي ومخصي، عار أن تفتقد للمؤهلات الإنسانية رغم امتلاكك هذا القدر من المال".

ليكون نهائي كأس ملك إسبانيا ذلك الموسم بين الفريقين بمثابة ساحة القتال الأخيرة التي سيسوي فيها الطرفان أي أمور معلقة، بالأخص بعدما انجرف مينوتي للكنة نظيره الحادة في الحديث، وأقر أنهم في برشلونة جاهزون لمقابلة أي عنف ممنهج بما يوازيه من عنف.

قبل نهائي الكوبا مباشرة، وقع حادث مأساوي لإحدى حافلات جماهير برشلونة المسافرة إلى العاصمة لدعم فريقها مع سقوط ضحايا.. جماهير بلباو أطلقت لعناتها وصافرات استهجانها خلال دقيقة الحداد على أرواحهم قبل المباراة على مرأى ومسمع من العاهل الإسباني خوان كارلوس الأول وزوجته الملكة صوفيا.

إنديكا مهاجم بلباو تقدّم مبكرا لفريقه، فكان ذلك السيناريو المثالي لمقاتلي المدرب كليمنتي، وتحوّل الفريق بأكمله نحو الدفاع، أو بالأحرى نحو الإطاحة برأس كل من تسوّل له نفسه بالاقتراب من مرمى الحارس أندوني زوبيزاريتا..

جويكوتشيا لم يفوّت بالطبع فرصة النيل من مارادونا في تلك الظروف، فتدخل معه بعنف مما جرح قدم الأرجنتيني الذي كان مُستهدفا أيضا من الجماهير الباسكية التي لم تنقطع عن إهانته ومهاجمته طوال أحداث اللقاء.

وعندما أطلق حكم اللقاء صافرة النهاية معلنا انتصار بلباو، ظن البعض أنه الوقت المناسب لتنفُس الصعداء، لكنها لم تكن إلا إيذانا بانطلاق المشهد الأبشع في تاريخ الرياضة الإسبانية، بالأخص عندما قام ميجيل سولا لاعب بلباو بإطلاق إشارة خارجة في وجه مارادونا من أجل استفزازه..

مارادونا فكّر حينها ربما بأنه قد ضبط نفسه بما يكفي في الأشهر الطويلة الماضية، وأنه الوقت المناسب لإظهار ما يمكن أن يخرج من شاب أرجنتيني جامح متمرس في شوارع بوينس آيريس، فما مرت لحظات، إلا وركل مارادونا نظيره سولا الذي كان يحتفل بشكل ساخر، قبل أن يستعمل مرفقه في إلحاق الضرر بوجه لاعب باسكي آخر.. وهنا تحديدا بات كل شخص منتمي لأتلتيك بلباو، في مواجهة جسدية غاضبة مع كل شخص ينتمي لبرشلونة فوق أرض الملعب..

دييجو تمت محاصرته من قبل الباسكيين الذين تحركوا لنصرة أبناء طينتهم، واستغل المقاتل جويكوتشيا تشتُت فريسته مارادونا، فطار في الهواء ليركله في صدره.

أما سيزار لويس ميونتي، فتنحى عن منصبه، هجر إسبانيا بأكملها وعاد إلى بلاده الأرجنتين، ليتحقق ما يمكن تعريفه بأنه انتصارا لخافيير كليمنتي، ليس لأنه رفع كأس الملك المصيرية الحاسمة والفاصلة، وليس لأنه أجبر مينوتي على التسليم، بل لأنه تمكن من إغرائه وإدخاله إلى حلبة مصارعته، أظهره متناقضا أمام ذاته.

نعم، لقد انتصر إقليم الباسك في تلك الحرب الأهلية القصيرة، لم ينتصروا بالركلات التي وجهوها لصدور الكتلان، بل انتصروا بالركلات التي وجهها الكتلان لصدورهم الباسكية.

البرود الإنجليزي

كان الرئيس نونيز غير راض عن تلك المجزرة التي تمت على أرض سانتياجو برنابيو أمام حضور رسمي من الطراز الرفيع، شعر بإحراج شديد لهذا الموقف، وانفجر رأسه حيرة في البحث عن مدرب بديل يقدر على كبح جماح هؤلاء الصبية الملاعين.

هاتف صديقه بوبي روبسون مدرب المنتخب الإنجليزي، وتلقى منه الاسم المرشح: تيري فينابلز!

فينابلز (41 عاما) صاحب خبرة تدريبية قصيرة، تولى الإشراف على كريستال بالاس فريق القسم الثالث عام 1976، وقاده للوصول إلى القسم الأول في ظرف 3 سنوات فقط.

لاحقا وفي العام 1980 تولى تدريب كوينز بارك رينجرز فريق القسم الثاني، وصل به إلى نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي 1982، وقاده للصعود إلى الدرجة الممتازة في العام التالي، قبل أن يصنع الإعجاز ويقوده لاحتلال المركز الخامس في الدوري الإنجليزي بموسمه الأخير معهم -1983\1984-.

نونيز اليائس تفحص سجلات هيلينيو هيريرا وأودو لاتيك وسيزار مينوتي، كانت كلها مليئة بالإنجازات القارية والدولية قبل قدومهم إلى برشلونة، فماذا قدموا؟ لما لا يغامر إذا؟

حضر فينابلز المتحمس لتجربة لم يحلم بها أبدا، وفي يومه الأول بالنادي أخبروه بحتمية بيع دييجو مارادونا.. وشعر فينابلز بالإحباط على الفور.

مارادونا الذي حضر في صفقة قياسية من بوكا جونيورز، جلب 16 صديقا أرجنتينيا ليقيموا معه حتى لا يشعر بالغربة في إسبانيا، وطلب معدا بدنيا خاصا، ومصور يرافقه أينما حل، وسائق يقله إلى منزله في الساعات المتأخرة من الليل، وتوجب على نونيز أن يتحمل كل تلك التكاليف المادية.

إن جلَب مارادونا الألقاب فلا بأس أن يتحمل نونيز مشقة التوقيع على بعض الشيكات وتسديد ثمن بعض الوجبات، ولكن مارادونا أصيب لأسابيع طويلة وعندما صنع لقطته الأبرز في إسبانيا كانت بلعب التايكوندو على أرض سانتياجو برنابيو.. القرار محسوم: مارادونا سيرحل.. وقد حدث.

الآن اتجه التفكير إلى التعاقد مع لاعب أجنبي جديد، والإدارة أظهرت اهتماما بهداف أتليتكو المكسيكي الذي يدعى هوجو سانشيز، إلا أن فينابلز امتلك مخططات أخرى.

في إنجلترا كان فينابلز متيما بالاسكتلندي ستيف أرتشيبالد مهاجم توتنام، سريع، حاسم أمام المرمى، ويجيد اللعب الجماعي بحسب وصف فينابلز، لكن إمكانيات كيو بي آر المادية لم تكن لتوفر له أرتشيبالد أبدا، والصحافة الكتالونية تساءلت بصوت جمعي "أرتشيبالد من؟!".

فليكن أرتشيبالد وليس سانشيز إذا، قرار ستدم عليه إدارة برشلونة لاحقا بكل تأكيد، أما فينابلز فطلب معسكرا إعداديا بجبال أندورا، وأجبر لاعبي برشلونة على القيام بتدريبات شاقة تتضمن الركض بالسرعة القصوى لـ220 مترا.. الفتية شعروا بالغثيان.

فينابلز لم يكن يحاول خلق كتيبة مقاتلين كالتي يمتلكها فريق بلباو، ولكنه تأكد أن هذا الفريق لن يظفر بشيء إلا بلياقة بدنية عالية تصنع مزيجا متكاملا مع لمستهم الفنية.

أوقفته الجماهير في شوارع برشلونة بأيامه الأولى، بدى فينابلز شخصا لطيفا وهو يحاول التحدث بكلمات إسبانية قليلة التقطها من هنا ومن هناك، ولأن لغة كرة القدم لا تحتاج إلى معاجم، فقد فهم فينابلز رسالة الجماهير "فقط انتصِر على ريال مدريد وسنكون سعداء".. فينابلز رد متعجبا: "لا ليجا؟".. تركوه وضحكاتهم يتردد صداها في أذنيه.

لا لوم عليهم، فقد حلموا بلقب الليجا لعشر سنوات وشاهدوا فريقهم يخسره بأساليب متنوعة لا تخطر على بال بشر، وهذا السائح الإنجليزي حديث العهد بالكرة الإسبانية يظن أن الأمر بهذه السهولة؟ لاتيك عجز بكيني ومينوتي عجز بمارادونا، فمن تملك أنت؟ الحارس أوروتي قصير القامة الذي يعاني أمام التسديدات العلوية؟

على بعد بضعة مئات من الكيلومترات في العاصمة مدريد، جلس أمانثيو أمارو مدرب ريال مدريد الجديد بكثير من الثقة في المؤتمر الصحفي الخاص بتقديمه، وأخبر الصحفيين أنه سيفوز بلقب الدوري الثاني على التوالي.

أمانثيو كان يشير إلى دوري القسم الثاني الذي حققه في الموسم السابق 1983\1984 مع فريق ريال مدريد كاستيا في إنجاز تاريخي. إدارة الرئيس المدريدي رامون ميندوزا حمّلت أمانثيو مسؤولية استعادة لقب الدوري الغائب منذ عام 1980.

أمانثيو بدى الرجل المناسب لمحو حقبة ألفريدو دي ستيفانو المحبطة، إذ سيستفيد من كتيبة la Quinta del Buitre، إنهم 5 شبان من مدرسة ريال مدريد تم تصعيدهم في وقت واحد لإحداث ثورة في الفريق الأول: إيميليو بوتراجينيو، ميتشل جونزاليس، مانولو سانشيس، رافاييل مارتين فاسكيز، ميجيل بارديزا.

ترشيحات التتويج قبل انطلاق الموسم شملت بلباو حامل اللقب لموسمين متتاليين، ريال مدريد الذي سيبدأ حصاد ثمرة تألق الفريق الرديف، أتليتكو المدعوم بمهاجم مكسيكي قاتل، وعند ذكر اسم برشلونة كان الصمت هو السائد مع عدم التأكد من قدرة الإنجليزي فينابلز على التألق.

في الجولة الأولى من الدوري الإسباني، سحق برشلونة نظيره ريال مدريد بثلاثية نظيفة على ملعب سانتياجو برنابيو.. اشتعلت المسابقة المحلية، وفينابلز حقق انطلاقة لم يحلم بها.

ظل برشلونة مطارَدا من مدريد طوال الدور الأول، وسافر الميرنجي إلى كتالونيا في مطلع الدور الثاني بغية تقليص الفارق إلى نقطتين، جماهير برشلونة كانت متخوفة من عدم لحاق فتاها المدلل كاراسكو بالمباراة بعد أن عانى من مشاكل في التنفس، إلا أنه أكد حضوره وقال: "لسنا بحاجة إلى انتصار بثلاثية نظيفة أخرى، فقط نحتاج إلى الفوز بأي نتيجة".

الكلاسيكو المثير انتهى بانتصار برشلونة 3-2 رغم طرد فيكتور مونيوز منذ الدقيقة 35، وشكّل بداية الانهيار لمدريد.

بحلول الجولة 29 (5 جولات قبل النهاية)، امتلك برشلونة فرصة الفوز بالدوري إذ ما حقق أي انتصار، حل ضيفا على إيركوليز في فالنسيا، وحاول التسجيل دون نجاح.. في الدقيقة 87، قام الحكم باحتساب ركلة جزاء مثيرة للجدل لأصحاب الأرض، سددها خوان مانويل كارتاخينا على يسار أوروتي الذي ارتمى صوب الكرة ولم يقدر على التصدي، فخسر برشلونة وتأجل التتويج.

خرج أوروتي غاضبا بعد المباراة، وصرخ في وجه الصحفيين: "ما حدث لن يوقفنا، سنصير أبطالا، رغما عن الحكام وعن ركلات الجزاء".. كان صادقا.

بعد أسبوع، حل برشلونة ضيفا على بلد الوليد لتحصيل ما فاته في إيركوليز، والجماهير الكتالونية واجهت مشكلة كبيرة، وهي عدم بث المباراة مباشرة على التليفزيون الإسباني، فتجمهر مئات الآلاف من الكتلان حول المذياع مستمعين إلى المباراة بوصف الصحفي الكتالوني خواكيم ماريا بويول.

المدافع أليسانكو سجل في الدقيقة 65 وتقدم لبرشلونة بنتيجة 2-1.. البطولة على بعد 25 دقيقة فحسب، أقرب من أي وقت مضى، ولكن في الدقيقة 88، الكابوس يتكرر، وركلة جزاء جديدة على برشلونة.

حبست الجماهير الكتالونية أنفاسها، حُرموا نعمة البصر ومُنعوا من متابعة فريقهم، السمع وحده كان الحاسة التي ترقبت بتوتر ما سيحدث.

السلفادوري ماجيكو جونزاليس أمسك بالكرة وتقدم لعلامة الجزاء، اللاعب الأمهر في إسبانيا كان قاب قوسين وأدنى من الانضمام إلى برشلونة مطلع هذا الموسم، هل يندمون الآن على تجاهله؟

تقدم ماجيكو، سدد، وتصدى الحارس أوروتي.. صوت المعلق بويول خرج منفجرا من المذياع "أحبك يا أوروتي، أحبك يا أوروتي، أحبك يا أوروتي".. برشلونة أبطالا للدوري الإسباني بعد غياب 11 عاما.

حتى آخر الطريق

في الموسم الجديد -1985\1986- فكّر فينابلز أن الفرصة مواتية لتحقيق إنجار أوروبي لبرشلونة، والسبب الرئيس متعلق بغياب الإنجليز عن تلك البطولة.

فالفرق الإنجليزية ظهرت بـ8 من النهائيات التسع الأخيرة لدوري أبطال أوروبا، وظفرت بـ7 ألقاب مقسمة بين ليفربول ونوتنجام فورست وأستون فيلا.

فبنظرة على موسم 1983\1984 مثلا، نجد مرحلة نصف النهائي في البطولات الأوروبي الثلاث (دوري أبطال أوروبا، كأس الاتحاد الأوروبي، كأس الكؤوس الأوروبية) تضم 4 فرق إنجليزية، بالإضافة إلى فريقين اسكتلنديين انعكست عليهما النهضة البريطانية الشاملة في تلك الفترة.

كان جليا أن السيطرة الإنجليزية آخذة في التعاظم إلى أن حلت كارثة ملعب هيسيل في نهائي 1985 بين يوفنتوس وليفربول، والتي على إثرها حُرمت الأندية الإنجليزية من المشاركة في البطولات الأوروبية لخمس سنوات.

نسخة العام 1986 شهدت غياب عديد الأندية الكبرى والمتمرسة، فقط يوفتنوس حامل اللقب وبايرن ميونيخ كانا اسمين يشكلان الكثير من الخطر على برشلونة.

مع ذلك، كان الفوز بدوري أبطال أوروبا في حكم المستحيل، بطولة لم يتوج بها برشلونة قط، بل أنهم لعبوا النهائي مرة واحدة فقط عام 1961.

انطلاقة فريق المدرب فينابلز في البطولة لم تكن مشجعة أيضا، فهزموا سبارتا براج التشيكي ذهابا خارج ملعبهم 2-1، وفي الإياب تلقوا هدفا مبكرا منذ الدقيقة الثامنة انتهى عليه اللقاء، أي أن برشلونة تأهل بأفضلية الأهداف المسجلة خارج الأرض وحبس أنفاس جماهير كامب نو لـ82 دقيقة كاملة.

في الدور التالي فاز برشلونة 2-0 ذهابا على بورتو، قبل أن يرتحل إلى البرتغال ويخسر 3-1، ليتأهل مجددا مستفيدا من هدف أرتشيبالد الثمين خارج القواعد.

في الدور ربع النهائي، تقرر أن يواجه برشلونة الغول الأوروبي يوفنتوس، وجماهير كتالونيا عرفت أن الحلم قد وصل لنهايته.

برشلونة مر بفترة صعبة قبيل استضافة يوفنتوس في مارس 1986، لأن برند شوستر أحد أهم لاعبيه أعلن التمرد ودخل في صدام عنيف مع المدرب فينابلز، شوستر ألح في طلب الرحيل عن برشلونة وقام بادعاء الإصابة حتى لا يتدرب، وفينابلز طلبه للتحاور دون استجابة من لاعب الوسط الألماني.

الحل كان تأديب شوستر بسحب شارة القيادة منه، واستبعاده عن أهم مباريات الموسم، جماهير برشلونة القليلة التي امتلكت بعضا من الأمل الزائف قبل استضافة ميشيل بلاتيني ورافقه، تلقت الطعنة الأخيرة بغياب شوستر.

في طور المباراة، ظهر برشلونة متماسكا أمام البطل، ومنع فرقة المدرب جيوفاني تراباتوني من تهديد مرمى أوروتي، فينابلز حاول مراوغة نظيره الإيطالي المخضرم، فأخرج لاعب الوسط إستيبان فيجو بين الشوطين، ودفع بالظهير الأيسر مانولو.

الاستبدال كان يعني تقدم الظهير الأيسر الأساسي خوليو ألبيرتو ليشغل موقعا متقدما على الجناح، وألبيرتو كافئ مدربه بأن سدد بقوة في الدقيقة 81.. هدف الانتصار على يوفنتوس بطل أوروبا.

قال فينابلز بعد المباراة: "لا أدري ما إذا كان هدفا واحدا سيكون كافيا، ولكني ممتن لتسجيله.. في الإياب، سنحاول التسجيل مجددا".

بعد أسبوعين، احتشد أكثر من 70 ألف مشجع إيطالي غاضب في الملعب الأوليمبي بتورينو، صنعوا بألعابهم النارية أجواء مرعبة، وشعر لاعبو برشلونة أنهم ذهبوا طواعية إلى حتفهم.

إلا أن تراباتوني مدرب يوفنتوس عانى من أزمة إصابة مهاجمه الأساسي ألدو سيرينا الذي سجل 5 أهداف في مشوار يوفنتوس بالبطولة، في الذهاب حاول المدرب تعويض هذا الغياب بإقحام ماسيمو برياتشي، إلا أنه أصيب بدوره بعد 9 دقائق.

لم يمتلك تراباتوني الكثير من الحلول، فدفع بالمهاجم الذي لا يشارك كثيرا: ماركو باتشيوني.. وسيأتيه باتشيوني في كوابيسه بتلك الليلة.

باتشيوني أهدر 3 فرص محققة على بعد أمتار من مرمى الحارس أوروتي في الشوط الأول لمباراة الإياب، فيما ارتكب ستيفانو تاكوني حارس يوفنتوس خطئا فادحا أمام رأسية الاسكتلندي أرتشيبالد، واهتزت شباكه، وبات يوفنتوس في حاجة إلى 3 أهداف.. تعقدت المهمة.

قبل نهاية الشوط الأول بثوان، سئم القائد بلاتيني رعونة زميله باتشيوني، فتقدم بنفسه إلى منطقة جزاء برشلونة وتلقى تمريرة رائعة من الشاب مايكل لاودروب ترجمها بكل هدوء في شباك أوروتي مدركا التعادل.

بين الشوطين، طلب فينابلز من لاعبيه الصمود مهما تكلف الأمر، وفي هذا الوقت تحديدا كانت تعاليم لويس سيزار مينوتي السامية والمثالية قد تلاشت من أذهان لاعبي برشلونة تحت زئير الجماهير الإيطالية التي تدفقت الدماء في عروقها بعد هدف بلاتيني المتأخر.

لاعبو برشلونة قاموا بإهدار أكثر من 18 دقيقة في الشوط الثاني، قاتلين أي نسق للاعبي يوفنتوس الذين تحطمت معنوياتهم أمام برود الحارس أوروتي مع كل ركلة مرمى يقوم بتنفيذها.

انتهت المباراة على نتيجة التعادل، صنعوا المعجزة وباتوا في طريق مفتوح نحو المباراة النهائية.. المنافس القادم هو الفريق السويدي المجهول: جوتنبورج.

وصل فريق جوتنبورج إلى هذا الدور بعد إطاحته بأبردين الاسكتلندي، فينابلز شعر بالحيرة فقرر الاستعانة بمدرب أبردين لإطلاعه على بعض الأسرار.

أليكس فيرجسون وبلكنة اسكتلندية مميزة، نبّه نظيره فينابلز إلى خطورة فريق جوتنبورج الذي يمتلك لاعبوه حسما كبيرا أمام المرمى.

فينابلز حاول نقل جرس الإنذار إلى لاعبيه، إلا أن تحذير فريق أطاح لتوه ببطل أوروبا المدجج بالأسماء العملاقة لم يكن مهمة سهلة.

في مباراة الذهاب بالسويد، ورغم استعادة شوستر، تلقت شباك برشلونة هدفا تلو الآخر، وسقطوا بثلاثية نظيفة مع الرأفة.

العودة المستحيلة

لُعبَت مباراة الذهاب مرارا في ذهن فينابلز أثناء العودة إلى برشلونة، أعاد تخيل الطريقة التي ضُرب بها عمق دفاعه بأساليب بدائية. مدافعيه المخضرمين أليسانكو وميجيلي بديا كهاويين أمام الهجوم السويدي.

وعليه، قرر فينابلز أن المهمة رقم 1 في مباراة الإياب هي عدم تلقي هدفا سينهي المواجهة عمليا، فقام بتدريب مدافعيه على التعامل مع موقف النقص العددي، 3 مدافعين في مواجهة 4 مهاجمين، مدافعين اثنين في مواجهة 3 مهاجمين.

إلا أن دفاعه لم يكن مشكلته الكبرى، فستيف أرتشيبالد مصاب ولن يلحق بالمباراة، والمهاجم الآخر راؤول أماريا غائب أيضا، هذا يضع فينابلز في حيرة بين اختيارين أحلاهما مر.

إما الدفع بالمهاجم باكو كلوس الذي سجل مرتين في أول مباراة بالبطولة أمام سبارتا براج لكنه لم يشارك كثيرا من حينها، أو الدفع بالمهاجم الرابع بيتشي ألونسو الذي لم يخض أي دقيقة سابقة في دوري أبطال أوروبا.. حسنا، فينابلز اختار بيتشي ألونسو.

بعد 10 دقائق من انطلاقة المباراة، سجل ألونسو الهدف الأول في طريق الريمونتادا.. زالت الشكوك.

ومع تقدم برشلونة في النتيجة، حان وقت العاصفة السويدية، فريق جوتنبورج شن عدة هجمات متتالية لقتل المباراة، وأوروتي كان مصمما على إتمام المهمة، وقام بعدة تصديات حاسمة.

مدافعو برشلونة لعبوا بسيقان مرتعشة، ففشل خوليو ألبيرتو في إبعاد الكرة، ولحسن حظه لم يتم معاقبته.. أوروتي حافظ على رباطة جأشه وطالب زملائه بالهدوء حتى تمر تلك الدقائق العصيبة.

اللحظة الأكثر حرجا على برشلونة وقعت عندما سجل جوتنبورج بالفعل وأشار الحكم الإيطالي باولو كاسارين إلى دائرة المنتصف قاتلا أحلام جماهير كامب نو، إلا أن أوروتي لم يرض بمصير واقع، فهرول صوب الحكم المساعد ونبهه إلى حالة التسلل.

كاسارين تشاور مع مساعده لبضع ثوان وأعادا رسم الحالة معا، وتوصلا إلى إلغاء الهدف بعد احتسابه، ومر الشوط الأول بسلام.. برشلونة واحد، جوتنبورج لا شيء.

في الشوط الثاني طُعنت جماهير برشلونة في قلوبها مع مرور الدقائق، إلى أن أرسل المدافع ميجيلي كرة طولية للمهاجم ألونسو الذي هرب من مدافعي جوتنبورج في الدقيقة 63، وسجل هدف فريقه الثاني.. على وشك المستحيل.

بعد 7 دقائق، تسلّم الذئب كاراسكو الكرة على الجبهة اليسرى، وراوغ المدافع السويدي لعدة مرات قبل أن يرسل عرضية استقبلها ألونسو برأسه.. هاتريك!

فقد ألونسو عقله أثناء احتفاله بثلاثيته، اتجه صوب الراية الركنية للاحتفال بالإعجاز وسط ذهول زملائه الذين تكالبوا على معانقته، ومن بين فوضى البهجة المتناثرة في الأجواء، ركض طفل من جامعي الكرات إلى لاعبي برشلونة وقام بمعانقتهم بشكل هيستيري.. يُدعى جوسيب جوارديولا بالمناسبة.

أحبك يا أوروتي

أقصى ما استطاع لاعبو برشلونة تحقيقه هو تسجيل 3 أهداف وإدراك التعادل، فلم تحمل الأوقات الإضافية جديدا، مما حتّم الاحتكام إلى ركلات الجزاء الترجيحية.

تقدم ستيفان باتيرسون لجوتنبورج، وسجل.

أليسانكو والركلة الأولى لبرشلونة، سجل.

مايكل أندرسون، سجل.

أنخيل بيدرازا لمعادلة النتيجة، سجل.

بينتر لارسون، سجل.

لوبو كاراسكو، يسدد برعونة في منتصف المرمى، يهدر!

عاد كاراسكو باكيا بعد تسديد ركلته، جلس يذرف الدمع المدرار وقد أطاحت يساريته بالحلم الكتالوني.

ستيج فريدريكسون، يسجل.

رامون كالديري، يسجل.

يتقدم رولاند نيلسون لتسديد ركلة جوتنبورج الخامسة، تسجيلها سيعني الوصول إلى المباراة النهائية في مدينة إشبيلية، أوروتي يتصدى.. ديجا فو.

لاعبو برشلونة يتوجهون إلى كاراسكو لتهدئته بعد أن خارت قواه.

ولأن الأبطال لا يتوارون بعد تصدر المشهد، فقد سدد أوروتي بنفسه الركلة التالية، وسجلها، إلى ركلات الموت المفاجئ إذا.

بير موردت يتقدم، يسدد، في سماء كتالونيا، يهدر.

أوروتي لزملائه: "كالما.. كالما".

فيكتور مونيوز يتقدم.. يسدد بكل ما يملك من قوة.. يسجل.. برشلونة إلى نهائي دوري أبطال أوروبا بعد غياب 25 عاما.

انتهت.

التعليقات