"زامبيا 93": 50 ألف فرسخ شمال ليبريفيل!

الخميس، 16 فبراير 2012 - 18:32

كتب : خالد يوسف

مجرد نقطة حمراء ترقص في هذيان في ذلك القوس الذي يميز خليج غينيا على خريطة تليق بجرافيك رديء خلف مذيع لا يكترث كثيراً بما يقوله.. من الذي يشاهد نشرة أخبار القناة الثانية في الظهيرة بأي حال؟ إنه الكشك الوحيد في المنطقة الذي يمكن أن تتناول منه جرعتك اليومية من "لايف اليوسفي" مع الشيكولاتة الجيرسي عقب مباراة الكرة "الخميسية" التي تكون كالبلسم في نهاية أسبوع مدرسي من الجحيم ، لا يمكن سماع شيء مما يقوله المذيع اللامبالي بسبب مزاحمة أغنية هشام عباس المنطلقة من تسجيل صاحب الكشك ، وهو ما يسببب لك ضيقاً مضاعفاً.

وحده كان أذان العصر سبباً كافياً مقنعاً لصاحب الكشك بالتنازل عن هشام عباس وإفساح المجال للصوت القادم من التلفاز. وحدها كلمة منتخب زامبيا في نهاية التقرير قبل نقل الأذان التلفزيوني تضع لك تفسيراً للصورة بأكملها ، في المنزل ، وفي صمت تضع فى الغسالة القميص المغموس بأكمله في عرق تفخر به كشاهد على المباراة العصيبة التي قدمتها قبل ساعة، في صمت مماثل تخلع الحذاء "الباتا" القادم من ذلك الفرع الجديد في شارع الطيران القاهري ، تودعه أسفل السرير ، تلك العلامة بأنك لن تستخدمه في المستقبل القريب على الأقل ، ذلك الاعتزال المؤقت ، والذي لن يفهمه أحد في المنزل ، ولا المدرسة ولا الحي وربما العاصمة كلها.

كانت القاهرة ملبدة أصلاً في ذلك الوقت من أبريل بتلك السحابة الرمادية ، السحابة التي أحدثتها رأس مجدي طلبة وكرته التي "أخرجت" مصر الجوهري من تصفيات كأس العالم 94 "في عيون وعقول الجميع على الأقل" ، لتتمحور الحياة في الإجابة على السؤال الوجودي ما إذا كان رضا عبد العال سينتقل للأهلي كما أشيع بقوة ، أو هل سيصاب إيمانويل أمونيكي ولو لمرة واحدة حتى يمكن للأهلي تعديل الفارق ، أو تخيل سقوط الزمالك في الأسبوع الأخير أمام بلدية المحلة في المعجزة المثالية. قطعة الحديد الضخمة التي سقطت بالقرب من سواحل ليبريفيل كانت سبباً مقنعاً لأن تغلق رغباتك في معرفة أي شيء بالشمع الأحمر ، كان الأمر تقريباً "حالة وفاة في العائلة".

أفراد العائلة الذين يدخلون السعادة إلى القلب أو الحزن المفرط ، أو يسددون لك اللطمات التي تعيدك لأرض الواقع ، تماماً قبل أكثر قليلاً من عام ، ذلك الملعب على أضواء الشموع في زيجينشور في "كان 92" ، عندما تحضر نفسك للتتويج بعدها بـ18 يوماً ، ولكن أولاً عليك التهام أول الضحايا ، التي تظهر أسماؤهم المعتادة بنفس الجرافيك الرخيص ، إيفورد شابالا ، جون سوكو ، صامويل تشومبا ، إيستون مولينجا ، وايتسون تشانجوي ، ديربي ماكينكا ، ميلو ، مويتوا ، مكوازا ، كالوشا بواليا ، شيكابالا.

الصفعة اكتملت عن طريق بواليا في الدقيقة 61 ، تلك الصفعة التي استمرت ست سنوات تالية ، أن تعرف موقعك الحقيقي بعد تلك النشوة التي صاحبت الجميع بعد "إيطاليا 90" ، أصبح الشعار ، أنا أمتلك "بواليا أيندهوفن" ، أو "أوكوشا فرانكفورت" أو "بيليه مارسيليا" ، إذن من أنت؟ الكل يسير طبقاً لما تقوله فرانس فوتبول وليس ما تقوله لك "الكورة والملاعب" ، شيكابالا الأخير اختفى بسبب مرض غريب بعدها بأشهر ، ستة من رفاقه استقر رفاتهم بعد عودتهم من ليبرفيل في توابيت بملعب الاستقلال فى لوساكا في آخر أيام أبريل 93 ، وحده بواليا من التشكيلة الأساسية كان من الناجين.

أفراد العائلة الذين تلتقيهم مرة كل عامين في نفس الموعد ، في بلد مختلف ، يذكرونك بأنك قادم من قارة تنتمي لها في الكتب فقط ، ولكنك تربيت أنك سيدها ، كل علاقتك مع نكانا رد ديفليز أو باور ديناموز أنهما من الفرق التي يدهسها الأهلي والزمالك في طريقهما لنهائي بطولات الأندية ، وحدها كأس الأمم الإفريقية التي تجعلك جزءاً من المجموع ، وربما خارج اللعبة كلها كما حدث في أول معرفة حقيقية لك بزامبيا في "ليبيا 82" ، التي غابت عنها مصر لأسباب سياسية في صدفة غير بريئة ، تلك القمصان البرتقالية والشورتات السوداء التي تجري على ترتان أخضر ، تتغلب على الجزائر في مباراة الثالث والرابع ، أن تحضر تشابالا في مباراته الأولى بستاد القاهرة كحارس أساسي لمنتخب بلاده في نهاية 83 في تصفيات "لوس أنجيليس 84" متلقياً هدفين ، مجرد فريق في الطريق إلى التأهل. نفس العام الذي شهد اعتزال جودفري تشيتالو ، أفضل لاعب زامبي على مر العصور ، قائد إنجاز وصافة "القاهرة 74" ، أحد الضحايا الذي سقطوا في التمحور المصري حول الذات خلال السبعينات ، تماماً مثل ساليف كيتا وأحمد فراس وروجيه ميلا "في مجده الحقيقي".

الاجتماع العائلي التالي كان في الأسكندرية 86 ، عندما تلتقي بإبن عم لم تعرفه جيداً من قبل ولكنه يصبح منذ تلك اللحظة العائلي المفضل لك ، نفس القمصان البرتقالية وهي ترقص أمام كاميرون مفيدي ، ميلا ، نكونو ، كانا بييك ، إيميلي مبوه. الحصاد كان الخسارة 2 – 3 لأبناء عمال مناجم النحاس ، ولكنك تلحظ تماماً النشوة في قلوب جمهور الأسكندرية تجاه ما قدمه الفتى الشاب كالوشا وزميله مايكل تشابالا ، زامبيا ، ذلك الفريق الرائع الذي يخسر مودعاً الجميع مبكراً ، تلك هي البطاقة التي لازمتها لعقود.

وحده صوت فايز الزمر "المتحمس دوماً دون داع" والقادم من تليفون فضائي سيخبرك في الظهيرة خلال رسالة ألعاب "سول 1988" المعتادة أن هناك مفاجأة مدوية حدثت ذلك اليوم من سبتمبر ، الزمر سوف يتحدث لعشر دقائق كاملة دون أن يفيدك بطبيعة تلك المفاجأة ، ولكن ليس هناك حاجة بعد متابعة صور كالوشا وجونسون بواليا وهم يمزقون إيطاليا برباعية نظيفة ، ونفس كرة القدم التي عرفتها الأسكندرية قبل عامين ، إنها تلك النقطة الأبرز لما يمكن أن تقدمه كرة القدم الإفريقية ، قبل سنوات ضوئية مما ستفعله الكاميرون أو نيجيريا أو السنغال لاحقاً ، تلك المتعة ، تلك السرعة التي لا تخلو من البساطة ، كأنها لغة لم يعرفها الأوروبيون من قبل.

كل إعلان سيتروين "هتشباك خلفي" ونيسكافيه وبنزين ELF قبل مباريات "الجزائر 1990" يخبرك بأن الاجتماع العائلي سيكون مختلفاً ، خاصة وفريقك الوطني "الأوليمبي" ليس مرشحاً بأي حال ، لتعثر على ابن العم وقد نضج كثيراً ، عصابة تشابالا من حولك ليخبرك بأن إجتماع العائلي التالي ترى إبن العم وقد نضج قليلاً ، وأمام نفس المنافس في الأسكندرية ، حامل اللقب والمرشح الأول ، ووسط حالة النعاس التى تغالبك في تلك الليلة المتأخرة من يناير 90 ، سوف يوقظك شيكابالا ، ومويتوا ، ومولينجا وماكينكا ، وتشومبا ، تماماً كما أيقظ الملايين في العاصمة الكاميرونية ياوندي على كابوس ، زامبيا أسقطت الكاميرون في "بروفتها الجنرال" قبل مونديال 90 ، الحصاد كان المركز الثالث في نهاية الأمر ، زامبيا كانت تستعد لتولي قيادة الأمور ، وكأنها الاستثناء الوحيد في ظل خفوت نجم الشمال الأفريقي ، والسطوة الكاملة للغرب ، كانت زامبيا الاستثناء.

بلد الخمسة ملايين نسمة كان يستعد للفوز بكأس الأمم الأفريقية 94 والتأهل لمونديال نفس العام ، خاصة بعد تولي جودفري تشيتالو تدريب الفريق ، والذي قبل المهمة في ديسمبر 92 ، كان يستعد لمواجهة السنغال في أول مباريات مجموعته المؤهلة لكأس العالم والتي كانت تضم المغرب أيضاً ، كان يبدو السيناريو الساحر ، ابن زامبيا المدلل يقودها لأول خطوة جادة في التأهل لكأس العالم ، ربما كانت تلك هي الفكرة التي صاحبته خلال الساعات التي تأخرت فيها تلك الطائرة العسكرية في وقفتها الطارئة في ليبريفيل.

خلال البقية الباقية من عام 1993 تم سحب الحذاء الباتا من تحت السرير مجدداً ، وسال العرق على كل الأقمصة المدرسية المختلفة ، ولم لا؟ عصابة كالوشا على بعد نقطة واحدة من التأهل على حساب المغرب ، بفريق من بواقي الدوري الزامبي ، وكأن مناجم النحاس مازل لديها المزيد ، مناجم أحيت قارة بأكملها في انتظار المعجزة التي لم تحدث ، استبعد الجميع حدوث أي معجزة في اللقاء العائلي في "تونس 94" ، حكايات ما قبل النوم تستمر لخمس دقائق فقط ، ولكن ليس لقرابة شهر كامل ، ذلك الشعور الغريب أنك دخلت في غرفة لا تعرف بها أحد سوى كالوشا ، إلا أنه بمرور الوقت ستتعرف على باطن ذلك البلد الصغير بفضل ليتانا ومالوتولي ، إيفانز ساكالا ، هاريسون تشونجو والحارس بيري. من الصعب تصديق أن مصر كانت على بعد دقائق بسيطة من مواجهة تلك الكتيبة المجروحة ، وحده كوليبالي المالي "بمساعدة شوبير" منع ذلك الصدام في دور الثمانية ، زامبيا تجد نفسها في معجزة أخرى في النهائي أمام أموكاشي ، أوكوشا ، رشيدي ياكيني ، أديبوجي ، أوليسيه ، تقدم مبكر زامبي ، ومن جديد إيمانويل أمونيكي يفسد "على البعض" كل الليالي بهدفين نيجريين ، إلا أن ما قدمه "المجروحون" في الشوط الثاني سيظل واحدا من أفضل ما قدمه أي فريق أفريقي في الـ25 سنة الأخيرة ببطولات الأمم الإفريقية ، شوط يليق بالفريق الرائع الذي عادة ما سيخسر.

الكرة الإفريقية لا تغادرك ، سوف تلاحقك ، في وسط عقدة النقص التي عاشتها الكرة المصرية خلال منتصف التسعينات ، كانت المعجزة الأساسية التي حققتها عصابة كالوشا أن فريق الطواريء أصبح أحد أهم قوى القارة ، ذلك المنتخب الذي تربيت عليه كمطب في طريقك للتأهل أصبح يسدد اللكمات تلو الأخرى ، كان سبباً في ترك شوبير للمنتخب برباعية ودية في القاهرة ، ثم اللطمة الكبرى في يناير 96 فيما عرف لاحقاً بإعصار بلوموفونتين في مواجهة الفريقين في ربع نهائي أمم أفريقيا 96، نفس العصابة التي حلت وصيفاً قبل عامين مزدوة بمكوك شاب يدعى دينيس لوتا ، جعل نادر السيد وسمير كمونة وهاني رمزي وياسر رضوان في كابوس طويل لأعوام لاحقة عقب ذلك الشوط الثاني ، في تلك الليلة من يناير قطعت إذاعة الشباب والرياضة إرسالها مفضلة إذاعة أغنية لهشام عباس وهو ما كان مقنعاً للخلود مبكراً لنوم لم يأت مطلقاً.

كرة القدم قادرة على إقناعك بكراهية البعض ، لم يرغب أحد في سماع اسم كالوشا أو لوتا على وجه التحديد ، ذلك التحول السريع في المقاعد ، الفريق الذي كان تحطم قلبك من أجله أصبح كابوسك ، هو سبب شعورك بالمرارة في الحلق بعد معرفتك بقرعة "بوركينا فاسو 98" ، لتحظى بمصاصين للدماء بدلاً من واحد ، المغرب ، وقبلها زامبيا في المواجهة الثانية ، اللقاء العائلي لم يكن أكثر توتراً كما كان الحال في ذلك العام ، ابن العم الخجول ، خفيف الظل هو ذلك الخصم المباشر ، ولكن ما لم يكن يدركه أبناء الجوهري في ولايته الثالثة أنهم سيكونون السبب في نهاية جيل كالوشا في تلك الأمسية من يناير 1998 ، تلك الرباعية وضعت لافتة "إلى اللقاء في المعجزة المقبلة " في وجه زامبيا ، وكانت الرسالة مؤلمة في ظل الاكتساح الرقمي والفني داخل الملعب للبطل المستقبلي من تلك النسخة.

في ليلة أوروبية فائقة البرودة انتهت بنجاح رحلة البحث عن رابط إلكتروني لأول مواجهات تصفيات كأس العالم 2010 ، أبطال إفريقيا مرتين متتاليتين يلعبون على أرضهم في رحلة روتينية لحصد أول ثلاث نقاط تلقائية أمام منتخب "لطيف" ، ظل شبحاً لجيل كالوشا ، ولكنه الشعور بالندم على مشاهدة مواجهة كان الفريق الزامبي فيها ينفرد بمرمى الحضري بمعدل مرة كل أربع دقائق ، امتلاك كامل لوسط الملعب ، نفس السرعة التي تجرع منها الإيطاليون في 88 ، نفس شعور الصدمة ، وقتها ستتأكد أن زامبيا فعلتها مجدداً ومع خصمها المفضل ، عمرو زكي يتقدم في الشوط الأول ، ولكنه إنذار كاذب ، فما عرفه الجمهور المصري في الشوط الثاني كان مزيجا بين التوتر والحسرة والكوابيس القديمة ، في زي فرنسي هذه المرة بفضل رينار ، كان الحصاد هو التعادل الإيجابي ، فقدان أول نقطتين في مشوار التصفيات ، حفظ الجمهور المصري اسم كريستوف كاتونجو وكيندي موينيي عن ظهر قلب ، وأدرك وقتها أن الزامبيين مثل أي طائرة بحاجة إلى التهمل قليلاً ، قبل أن تأخذ سرعتها رويداً ، تمهيداً للإقلاع ثم التحليق عالياً ،

التعليقات
/articles/117550