كتب : أحمد أباظة | الأحد، 15 أكتوبر 2023 - 23:48

صمت صلاح.. لأن الكلمة لم ولن تكون بلا قيمة

صمت صلاح

الكل يعرف من أين تبدأ هذه الإشكالية: لماذا لم يتكلم محمد صلاح حتى الآن عما يحدث في فلسطين؟ والكل يعرف أيضا أنها تنقسم بين رأي يستنكر صمته، وآخر يقول إن لاعب الكرة ليس زعيما سياسيا ولا يفترض أن ينتظر منه الناس موقفا أو حديثا.. فما الفارق الذي ستشكله بضع كلمات من لاعب مهما بلغ حجم شعبيته أو تأثيره؟

محمد صلاح

النادي : ليفربول

إليكم تلك المفاجأة مبكرا، نعتذر إن خدعك العنوان، فلسنا هنا للاشتباك مع صمت صلاح أصلا، بل مع ذلك الوهم القائل بأن الكلمة بلا قيمة..

بالبحث عن تعريف كلمة "بروباجاندا".. ستخبرك ويكيبيديا أنها "تعني نشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور وتوجيه مجموعة مركزة من الرسائل بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص، وهي مضادة للموضوعية في تقديم المعلومات، فهي عرض المعلومات بهدف التأثير على المتلقى المستهدف".

صحيح أنها مضادة للموضوعية ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنها سيئة، فمن الممكن أن تستخدم لخدمة أهداف نبيلة، ولكن هذا يتركنا أمام سؤالين في غاية الأهمية:

1- إذا كان الهدف نبيلا.. لماذا لا يمكن الدفاع عنه بطريقة موضوعية؟

2- أي نبل هذا الذي قد تتحلى به إسرائيل من الأساس؟

إجابة السؤال الأول سهلة للغاية، بل هي بداخل السؤال نفسه. إن لم تكن قادرا على إعمال الصدق التام في دفاعك عن قضيتك، فهذا -في أكثر التصورات لطفا ومجاملة- يعني أن هناك صدع ما بها تحاول إخفاءه. أما الثاني.. هل تحتاج إليها حقا؟

هؤلاء الذين يوشكون على إبادة قطاع غزة عن بكرة أبيه لا يتسلحون فقط بطيرانهم الغاشم ورصاصاتهم التي لا تستثني صحفيا أو مدنيا أو حتى رضيعا، بل قبلها يتسلحون بالكلمة لتبرير ما سيرتكبوه، وبعدها يتسلحون بها مجددا ليطهروا بيها أيديهم من شر ما اقترفت..

الكلمة هي كل ما يسمح لتلك الدولة العنصرية المجرمة بالتحول إلى ضحية وديعة مسالمة أمام العالم الغربي، وتلقى تلك الكلمة الكاذبة انتشارا واسعا خارج حدودنا، وكذبة تلو الأخرى يتقرر ما تكرر، إما عمدا وهو أمر خطير، وإما جهلا، وهذا الأكثر خطرا.

مثلا، نشر المغني الأمريكي جاستن بيبر صورة مكتوب عليها "نصلي لأجل إسرائيل".. ما خلفية الكلمات المكتوبة؟ صورة من الدمار الذي لحق بقطاع غزة. كم شخص -وأولهم بيبر نفسه- لا يعرف أن الكلمات التي كتبت لمناصرة إسرائيل قد وضعت على صورة من الدمار الذي ارتكبته إسرائيل نفسها؟

كم متابع يملك بيبر عبر إنسجرام؟ 293 مليون متابع.. لم تخطئ قراءة الرقم، فهو أكبر من تعداد شعب نيجيريا الدولة الأكثر سكانا في إفريقيا.. والآن تخيل كم شخص تم تضليله بصورة واحدة.. نشرها شخص داهمت الشرطة منزله في 2014 بسبب إلقائه للبيض على منزل جيرانه؟

تريد مثالا آخر؟ جيمي لي كورتس.. هذه ليست شابة طائشة مثل بيبر الذي لم يتم عقده الثالث بعد، بل ممثلة مخضرمة ومؤلفة كتب للأطفال، فازت بجوائز أوسكار وجولدن جلوب وتبلغ الآن من العمر 64 عاما.

كورتس نشرت صورة لطفل يحمل طفلة وينظر للسماء مرتعدا، وكتبت عليها "رعب من السماء" مرفقة إياها بعلم إسرائيل. طبعا اضطرت لحذف الصورة لاحقا، بعد أن أذاقتها مواقع التواصل الاجتماعي شر سخريتها، لأنها في سياق استجداء التعاطف لدولة محتلة، استخدمت صورة أطفال غزة، ضحايا هذا المحتل تحديدا.

كيف كانت كلمة الحق ذات فائدة حتى وإن كانت ساخرة من جهل في بادئ الأمر؟ حذفت كورتس منشورها الأول المغلوط، ونشرت صورة أخرى معلقة عليها "كل الأطفال بحاجة لصلواتنا. اهتمامنا وحبنا للأطفال سواء كانوا إسرائيليين أو فلسطينيين".. وهكذا كان مجرد تصحيح الكلمة بالكلمة، كافيا لنقل شخص مؤثر من التحيز الأعمى للطرف الآخر إلى منطقة الوسط.

استمر بالسير خطوة تلو الأخرى، إلى أصغر أصغر إنجازات الكلمة، ستجد عبر تويتر رجلا أجنبيا لم يكن يعرف شيئا عن القضية بأكملها في 2021 حين اندلعت أحداث حي الشيخ جراح، فسأل، فأُجيب، فقرأ أكثر.. والآن؟ كان أول من يدافع عن القضية حين اندلعت الهجمات الأخيرة، عن كامل اقتناع بعد وضع الحقائق أمامه.

زوجة فيديريكو فالفيردي لاعب ريال مدريد هي الصحفية الأرجنتينية مينا بونينو، وللتوضيح أكثر فإن الأرجنتين دولة معروفة بعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، نشرت صور خلال الأحداث الأخيرة نقلا عن مصور فلسطيني يعمل ويساعد في الإنقاذ من القصف قائلة: "الصور صعبة للغاية ولكنا حقيقة. كل شيء يؤلم. إلى أي مدى تذهب الإنسانية"؟

لا زلنا مع كرة القدم، فقد رصدت سارة عرفاوي زوجة إلكاي جوندوجان جانبا آخر من هذا التناقض قائلة: "لا أفهم ذلك.. المدنيون والأطفال في فلسطين يتم استهدافهم. قتل الأطفال سيئ إن أتى من طرف، ولكن إن فعله الطرف الآخر ندعمه"؟

إسرائيل دولة تمارس قتل الأطفال كهواية، ولكن من أين تم تصدير صورة أن الأطفال الإسرائيليين ضحايا أيضا؟ إن كنت من هواة دراسة التلاعب الإعلامي ولا يسهل استفزازك، ربما تستمتع، ولكنك كإنسان.. ستشمئز لا محالة.

رواية "ذبح حماس للرضع" بدأت من كلمات التقطها سارة سيدنر مراسلة "سي إن إن" وقالتها على الهواء مباشرة.. كذبة حتى الحكومة الإسرائيلية نفسها لم تستطع تأكيدها، واضطرت سيدنر نفسها للاعتذار عنها علنا، هل قضى كل هذا على ذلك الادعاء؟ لا، لا زال العديد من أنصار الطرف الآخر يروج لتلك الأسطورة المفتعلة دون ذرة حياء، لا يهم أن يعتذر القائل، فقد أدت الأكذوبة غرضها بالفعل.

أما صحيفة "ذا تايمز" الإنجليزية، فقد نشرت عبر صفحتها الأولى وبأكبر خط ممكن "إسرائيل تُظهر أطفال مشوهة".. وتبدأ الخبر بـ "إسرائيل نشرت صورا ليلة أمس تظهر أجساد مشوهة تتضمن طفلا زُعم أنه قُتل على يد حماس، الجماعة الإرهابية المسؤولة عن سلسلة من المذابح في عطلة الأسبوع الماضي".

كلمات مخيفة للغاية إن كنت لا تدري شيئا، مصحوبة بصور مؤثرة للغاية لـ 3 فتيات صغيرات بجروح وآثار واضحة للعدوان، مجددا هم أطفال فلسطين، ومجددا امتلكت هذه الصحيفة ما يكفي من الوقاحة لنشر هذه الصورة بأكبر حجم ممكن تحت عنوانها الكبير عن مأساة إسرائيل، ثم الكتابة تحتها بأصغر خط ممكن: "أطفال فلسطينيون جُرحوا في هجمات الطيران على غزة. إسرائيل قالت إنها لن ترفع الحصار حتى يتم إطلاق سراح الرهائن".. أرأيت؟ لا يمكنك اتهامهم بأنهم لم يوضحوا.. الأمر لا يتوقف عند الكلمة وربطها بالصورة، بل يمتد حتى إلى التلاعب بحجمها.

الكلمة هي التي دفعت سلسلة المطاعم الشهيرة للمسارعة بكل فروعها العربية لنفي أي علاقة لها بـ "فرعها الإسرائيلي" الذي دعم جيشها بوجباته، وخرجت كل شركة مستقلة تدير السلسلة في بلد عربي لتعلن عن نفسها بعد أن كان العديد منا يكاد لا يعرف عنها شيئا ويظن أن الكل يتبع الشركة الأم، لأن الكلمة نشرت الموقف، والموقف كان المقاطعة، والمقاطعة تعني خسائر حتى وإن أعلنها أشخاص لم يكونوا أبدا من عملاء هذه المطاعم.

لا زلت تظن أن الكلمة بلا وزن؟ ساعدنا إذا في الإجابة على سؤال شريف إكرامي: "إن لم تكن الكلمة الآن أقوى من الرصاصة، فلماذا إذن مُسحت الصفحات وأُغلقت الحسابات وحُجبت المنشورات"؟

وإن لم تجد الإجابة، فاتبع بقية نصيحته "سلاح التواصل الاجتماعي المُستخدم في غزو عقولنا و تدمير ثقافتنا والسيطرة على أجيالنا منذ سنوات، حان الوقت أن نغزوهم به ولو لمرة واحدة. تكلم قبل أن يتحول الباطل إلى حق والمجرم إلى ضحية والمدافع عن وطنه إلى إرهابي".

ألم تلحظ مؤخرا أن خوارزميات فيسبوك على سبيل المثال قد عادت لسابق شراستها؟ هل تعرف أن انتشار المنشورات بشأن فلسطين يتعرض لتضييق مستمر؟ أتعرف أننا حتى حين حاولنا البحث عن تصريح زوجة جوندوجان بكتابة اسمها وكلمة فلسطين بالإنجليزية عبر "جوجل"، لم تظهر لنا سوى أخبار تافهة عن أزمتها مع مانشستر سيتي، واضطررنا لتضييق نطاق البحث عن الأخبار في إطار زمني محدد إلى أن ظهر لنا الخبر المنشود على استحياء باللغة التركية.

لذلك قبل أن تستنكر استنكار العديد من الجماهير العرب لصمت محمد صلاح، اسأل نفسك أولا: لماذا يتساءل موقع إسرائيلي عن سر صمت محمد صلاح؟ لأنهم يتذكرون حتى اليوم ما فعله حين لعب ضد فريقهم عام 2013 مع بازل، ويتذكرون جيدا أنه قال: "سألعب في فلسطين وليس إسرائيل".. وبينما يقترحون أن السبب هو زيادة اندماج صلاح مع البيئة البريطانية، ويجزمون أن صلاح 2023 أكثر حذرا من صلاح 2013، تجدهم يتساءلون في النهاية عما إذا كان "سينهار تحت الضغط ويدين إسرائيل". لماذا؟ لأنهم يخشون تلك الكلمة.

لكل ذلك وأكثر نقول: لا تستهن أبدا بوزن الكلمة، فالعدو الذي يضرب المدنيين بالفوسفور الأبيض المحرم دوليا، ويجبرهم على الإخلاء مدعيا أنه منحهم الأمان ثم يقصفهم، يتسلح فوق كل ذلك بالكلمة لتغطية بشاعاته.. فارفع بالمثل كلمتك وأزل بها هذا الغطاء المزعوم، فكل شخص لم يكن يعرف والآن صار يعرف، هو فائدة لك إن اجتذبته من دائرة عدم الاهتمام، وخسارة لهم إن انتشلته من قلب أكاذيبهم.

التعليقات