أفشة.. العزف على جيتار في الملعب دون أن تشعر بصعوبة الأمر

الأربعاء، 11 أغسطس 2021 - 13:44

كتب : عمر مختار

أفشة

في كثير من الأحيان عندما نشاهد مسرحية أو نقرأ كتابا أو نجلس أمام التلفزيون فإننا نجد حبكة. سلسلة من الأحداث التي يجب علينا أن نكتشفها حتى نحصل على نهاية دراماتيكية. نهاية تترك الجمهور في البكاء ربما أو تلك التي تجعلهم يصرخون من جمال كل شيء. هناك حبكة في كرة القدم أيضا، وقد وَجدتُ سيدها الآن في بلادي. رجل ذو رؤية رباعية الأبعاد، شخص يكاد يكون أخذ الكرة بعيدا عنه مستحيلا، تماما مثل إبقاء عنتر وعبلة منفصلين.

إذا كنت تحب كرة القدم، فأنت على الأرجح تحب الأهداف. لا تبلغ اللعبة ذروتها عندما تنطلق صافرة النهاية، أو عندما يتصافح الفريقان ويتبادلان القمصان ثم يعودان إلى غرف خلع الملابس. لا، كل لحظة من المباراة، كل تمريرة، كل ثانية، كل شوط، كل تلك التفاصيل تجتمع معا لتصل إلى النقطة التي تتخطى فيها الكرة الفريق المدافع، ثم حارس المرمى الذي يصنع الموقف الأخير لتصطدم بالجزء الخلفي من الشبكة.

تبدأ مشاهد الإثارة والغضب كلما اقترب فريقك المفضل من شبكة الفريق المنافس، وبعد ذلك، بالترادف تقريبا، يصل الملعب إلى ذروته، وفي وسط كل ذلك، ينضم أحد عشر صوتا. إنها أكثر اللحظات المجيدة في اللعبة، وإذا كنا محظوظين، فإنها تحدث أكثر من مرة خلال الـ 90 دقيقة.

لحظات الزئير، اللكمات التي لا تكمل مسارها نحو السماء، عناق لن يحدث أبدا. يتعلق الأمر بالاحتفال بالأشخاص الذين وضعوا أجسادهم في طريق تلك اللحظة المثالية التي لن تأتي أبدا بالنسبة إليك كمشاهد.

نحن نحب مشاهدة المباريات والبطولات الكبيرة لأن الكثير من النقاش يدور هناك، حيث يُشكّل المشجعون رسما بيانيا عاطفيا ناتج عن انفعالات لحظية في احتضان حار واحد. غالبا ما يتم الحكم على الأبطال الرياضيين من خلال أدائهم في تلك المعارك الكبرى، وحينها ستتجاوز أي رياضة مبدأ الكفاءة البدنية والتقنية. يتطلب الأمر أكثر بكثير من مجرد عضلات قوية ومهارة تقنية لعدّاء في سباق 100 متر يَود الحصول على ميدالية ذهبية في أحداث أولمبية.

محمد مجدي "أفشة"، صانع الألعاب الصغير، رياضي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا يشبه لاعبي اليوم في العصر الحديث، ولا يريد حتي منافستهم للحصول على لقب أفضل قصات الشعر. لقد أصبحت رياضة لا يهيمن عليها اللاعبون الفنيون والمبدعون، ولكن أولئك الذين يتمتعون بلياقة بدنية مثالية والذين يستطيعون الحفاظ عليها لسنوات متتالية، لاعبو كرة القدم اليوم أقوياء، ذو بنية جيدة ولديهم نقطة ضعف واحدة فقط، تمزق عضلة في ذلك الجسد المثالي.

على عكس ذلك تماما، لم يكن أفشة المولود في الجيزة وسط عائلة تعشق كرة القدم شيئا من هذا القبيل. إنه شخص قصير القامة ونحيف لكن بإمكانه فعل أشياء بالكرة يحلُم الآخرون بفعلها.

كيف يمكننا وصف لاعب كرة قدم بأنه جيد؟ هل هي قدرته على المراوغة؟ سلوكه أمام المرمي؟ فهمه للجوانب التكتيكية؟ أم المزيج من كل شيء؟

أفشة هو واحد من قلائل هذا الجيل الذي يمكنهم بالفعل فهم كرة القدم بشكل صحيح، قبل كل شيء هو يحب الكرة، يعرف كيف يداعبها على أنصال العشب، كيف يقبّلها بأقدامه ثم يحركها في الاتجاه الصحيح. نري اليوم قلة الإبداع في خط الوسط نتيجة استخدام القوة البدنية أو التمرير الآمن أكثر للحفاظ على الاستحواذ ثم لعب تمريرة "عادية" لزميل في الفريق. إن أفشة ليس كذلك، ولم يكن من المفترض أن يكون كذلك.

إذا أتيت إلى إحدى المباريات وشاهدته عندما لا يمتلك فريقه الكرة، فستجده دائما ينظر للخلف وللأمام ومن فوق كتفيه، وكأنه مصاب بجنون العظمة أو شيء من هذا القبيل. لكنه يقوم فقط بمسح المساحة حوله ومن ثَم يضع خريطة ذهنية تتغير دائما.

كتبت هذه الكلمات منذ أكثر من ثلاث سنوات، عشية مشاهدة أفشة لأول مرة. كانت المباراة تجمع بين النادي الأهلي ونادي إنبي وكان أفشة يلعب لصالح الأخير. لقد كان يفعل كل شيء بطريقة صحيحة، يعزف على جيتاره الخاص دون أن يُشعرك بمدي صعوبة ذلك، لكن ما أثار دهشتي هو أن أفشة فشل حينها في جذب أنظار الجمهور.

أنا مهتم بسلوك اللاعبين أثناء عدم امتلاكهم الكرة، هذا هو الأساس قبل النظر إلى الشيء التالي. أفشة هو التنسيق، الإبداع، القدم الناعمة والرأس الهادئ. إنه المركز، إنه ما يدور حوله الفريق.

منذ اليوم الأول الذي رأيته فيه يلعب لصالح إنبي، أدركت أنني أمام شخص مختلف، وحتي عندما شاهدته في المباراة النهائية أمام كايزر تشيفز منذ أسابيع، شعرت بنفس الإحساس بل زاد انبهاري أكثر، في كل مرة أشاهده فيها فإنه يضيف إلى إدراكي جانبا آخر من جوانب اللعبة، لقد أصبح أكثر اكتمالا مما كان عليه في أي وقت مضى.

في عام 2019، أعاد ريني فايلر، المدير الفني الجديد للنادي الأهلي آنذاك بناء القلعة الحمراء حيث كان أفشة في قلبها النابض، وبعد رحيله والتعاقد مع بيتسو موسيماني، هدية جنوب أفريقيا التي لم يرفضها الأهلي، لم يتغير الأمر على الإطلاق. إنه رجل لجميع المقاصد والأغراض في مسرح خط الوسط.

عندما يكون أفشة على العشب الأخضر فإنك ستشاهد تحركات زملائه تتطور أمامه، ستبدأ الكرة بالتحرك أسرع لخلق مساحة أو سيقوم هو مباشرة بتمريرها لصناعة الفرص. محاطا بمواهب مزدهرة مثل حمدي فتحي، أليو ديانج، علي معلول ومحمد شريف، أصبح أفشة نقطة ارتكاز النادي الأهلي الذي ربما سيجادل الكثيرون بأنه أعظم فريق حصلوا عليه إذا فازوا بدوري أبطال إفريقيا للمرة الثالثة تواليا.

هناك لحظات أثبتت أن الحصول على الكرة من أفشة حتى في التدريبات أشبه بمهمة مستحيلة لأنه يتمسك بها بعزيمة شخص يدافع عن مكانه مع قدرة رهيبة على لعب التمريرات القصيرة وخلق مساحات هائلة في خطوط الخصوم. لكن تمرير الكرة ليس سوى نصف المعركة. أهم شيء على الإطلاق هو المكان الذي سينتقل إليه بعد ذلك.

خلال هذا الموسم، اكمل افشة 44 مراوغة من أصل 58 بنسبة نجاح 76%، 2.42 مراوغة لكل مباراة منها 1.84 مراوغة صحيحة، بالإضافة إلى صناعة 55 فرصة و 48 تمريرة مفتاحية.

عندما كان صغيرا، لم يكن أفشة أسرع أو أكبر طفل. لذلك كان عليه الاعتماد على رؤيته للتفوق. إن لاعبي خط الوسط المبدعين يرون حدودهم ويدركون أن عقولهم يمكن أن تتفوق حتى على أسرع لاعب في العالم.

تُمثِّل علاقة أفشة بالكرة جزءا كبيرا من وظيفته، خاصة ما يشار إليه بـ "لمس الكرة". الشيء الوحيد الذي يصعب التقاطه على التلفزيون هو أن الكرة ليست ثابتة، إنها متقلبة دوما، تدور، تقفز، تطفو وتتحرك في الهواء. يجب أن يكون اللاعب قادرا على "امتصاص الكرة" وليس مجرد استلامها، لذلك لا يتعلق الأمر فقط بالأقدام الناعمة، بل بكيفية استخدام الجسد بالكامل.

لمدة ثلاث سنوات، لم يقترب أي لاعب خط وسط من تأثير أفشة على أرض الملعب، أكمل ما يقرب من 1187 تمريرة صحيحة من أصل 1425 محاولة تمرير بنسبة 83% خلال هذا الموسم، 59.57 محاولة تمرير لكل مباراة منها 49.20 صحيحة وأحيانا أكمل كل تمريرة حاولها. إنه يسقط لتلقي الكرة من الدفاع، ثم يربطها بخط الوسط ويحركها إلى الهجوم. تمريرة قصيرة واحدة في كل مرة إلى أن يجد الثغرة في دفاع المنافسين.

في موسم 2019-2020 بدوري أبطال أفريقيا، لعب 8 مباريات وخلالها وصلت دقة تمريراته إلى 46.3 ((90% لكل مباراة منها 14.9 تمريرة في نصف ملعب فريقه (97%) و31.6 تمريرة في نصف ملعب خصمه (85%)، في الوقت الذي وصلت فيه دقة تمريراته الطويلة إلى 5.1 تمريرة لكل مباراة (85%).

بينما في موسم 2020-2021، لعب في البطولة الأفريقية 11 مباراة وخلالها وصلت دقة تمريراته إلى 37.1 ((89% لكل مباراة منها 12.8 تمريرة في نصف ملعب فريقه (95%) و24.7 تمريرة في نصف ملعب خصمه (80%)، في الوقت الذي وصلت فيه دقة تمريراته الطويلة إلى 2.1 تمريرة لكل مباراة (77%).

إن هدفه في النهائي الأفريقي يحكي الكثير، في البداية حاول طلب الكرة من محمد شريف لكنه وجد مدافع كايزر تشيفز لصيقا له، لذلك قرر استخدام لغة جسده بخداع خصمه بالتحرك للأمام ثم توقف بعد أن نجح في ابعاد مراقبه ليطلب الكرة مرة أخرى في المساحة ويسدد تسديدة بارعة فوق حارس المرمي الذي كان بإمكانه فقط أن ينظر إلى الكرة.

تقوم الرياضيات بشرح كرة القدم. إنها تمنحنا منظورا جيدا ربما لم يظهر للعين المجردة، وتضيء طريق البيانات نحو أذهان أعمق مفكري وفلاسفة اللعبة، كما تمنحنا وسيلة لتحليل وتقدير وهندسة وتحسين كل تفصيلة صغيرة، لكنها بالنسبة للبعض تقلل من كرة القدم أيضا لأنها بالنسبة لهم تحوّل اللعبة إلى مجموعة من الاحتمالات الحسابية، وتسمي اللاعبين بالأرقام، وتصنع مقياسا للحكم على مهاراتهم المختلفة والمنفصلة. والأهم من ذلك، أنها تفشل في الاعتماد على العاطفة، الخيط العالمي الذي يربط أي رياضة، وموزعيها، والمستهلكين معا.

إلى أفشة وإلى جميع لاعبي الوسط الذين جعلوا كرة القدم جميلة تستحق المشاهدة، أشكركم وأحييكم. هذا هو الأمل في أن تأتي سنوات عديدة من التألق من منتصف الملعب إلى ذاكرتك.

التعليقات