هنري الصغير .. قصة صعود من قلب الإمارة الفرنسية

الإثنين، 15 أكتوبر 2018 - 19:20

كتب : علي أبو طبل

تصميم كريم بكري

"العديد من الفرنسيين تمنوا أن يصدق الجنرال ديجول في وعده بإرسال الدبابات إلى موناكو في 1962 بعد فرض حصار على حدود الإمارة التي تمثل ملاذ المتهربين من الضرائب. وتمنوا حدوث ذلك بعد 31 عاما لاحقة، بعدما منح أرنولد كاتالانو الفرصة الاحترافية الأولى في كرة القدم لتيري هنري".

لطالما كانت إمارة موناكو صداعا في رأس الفرنسيين، لطالما تسائلوا ما إذا كانت فرنسية من الأساس.

تلك البقعة الصغيرة من اليابس التي لا يزيد عدد قاطنيها عن 30 ألف نسمة، 84% منهم من الأثرياء الأجانب.

قصة الصعود الكروي للإمارة تزامنت مع قصة صعود الأمير رينييه الثالث إلى العرش.

طمح رينييه إلى تحويل تلك الإمارة التي ظلت لعقود تحت صراعات السياسة إلى مقصد يتمنى الجميع زيارته، بل والإقامة فيه.

وقع الأمير في حب نجمة هوليود اللامعة، جريس كيلي، وفي 1956 نجح حفل زواجهما في جذب جميع الأنظار والصحفيين ونجوم الشاشة إلى الإمارة الصغيرة.

يوم واحد كان كافيا لتحويل الفكرة عن تلك الإمارة الصغيرة –التي طالما عُرفت بجامعي العملات النادرة والطوابع- إلى قوة عالمية حقيقية –بالمفهوم الإعلامي- وملاذا للمتهربين من الضرائب.

الجذب الإعلامي، واجتماع الثروات والأموال، والكازينوهات التي باتت مقصدا عالميا فيما بعد، بجانب نادي الإمارة لكرة القدم، كان كل ذلك مجموعة من القوى الناعمة التي امتلكها الأمير رينييه لتغيير صورة إمارته.

كل ذلك بدأ في عام 1953، تزامنا مع قصة صعود نادي كرة القدم الذي عرف بزيه المميز ذو الألوان البيضاء والحمراء المتقاطعة قُطريًا، حيث أشرفت على تصميم ذلك الزي الأميرة جريس كيلي شخصيا.

صعود سريع من درجات الهواة نحو الدرجة الأولى، ومن ثم أصبح نادي الإمارة شوكة حقيقية في حلق المنظومة الكروية الفرنسية.

لا يمكن للاعب أن يرفض عرضا من نادي الإمارة الذي يمنح لاعبيه أجرا يكاد يكون خاليا من الضرائب تماما، وهي الميزة التي امتلكها النادي على حساب منافسيه في المسابقة الفرنسية.

ملعب "لويس الثاني" لطالما كان أيقونة لنادي الإمارة على مدار السنوات، ولكن في أغلب الأوقات لا تمتلئ جنباته خلال المباريات.

هل يؤثر ذلك على أداء اللاعبين؟

ليس حقا.

في الوقت الذي نزل فيه الفتى تيري إلى ملعب تدريب الفريق للمرة الأولى في صيف 1993، كان النادي قد توج بـ11 لقبا كبيرا رسميا منذ حكاية صعوده.

ازداد النجاح بداية من عام 1987، مع قدوم مدير فني يافع لا يمتلك تاريخا كبيرا من قبل، ويدعى آرسين فينجر.

Image may contain: 6 people, people smiling, people standing

تحت قيادة فينجر، نجح موناكو في بلوغ النجاح الأوروبي الذي لم يتمكن من بلوغه من قبل.

الوصول لنصف نهائي الكأس الأوروبية لأبطال الكؤوس في 1990 كان أمرا غير مسبوق، وبعد عامين نجح الفريق في بلوغ المباراة النهائية للمسابقة ذاتها، ولكن التتويج كان من نصيب الفريق الألماني فيردر بريمن.

"لم نلعب في ذلك اليوم. فقط لم نتمكن. لا نعتبر أن المباراة قد بدأت من الأساس".

بعد عقود من تلك المباراة، يصف فينجر حالته وحالة لاعبيه في ذلك النهائي، حيث لم يكونوا في كامل تركيزهم أو رغبتهم من الأساس.

قبل ذلك النهائي بـ 3 أيام، كانت فاجعة كبرى في ملعب "فورياني" الخاص بنادي باستيا، بعدما سقط 18 ضحية نتيجة انهيار إحدى مدرجات الملعب، ليعم الحزن أرجاء بلاد النور.

في خلال تلك السنوات، كان نادي الجنوب مارسيليا مسيطرا على المنافسات المحلية في البلاد.

رجل الأعمالي والسياسي بيرنارد تابيه امتلك أسهم وقرارات النادي الذي أحب، فكانت السيطرة على بطولة الدوري بين سنوات 1989 و1992، وصولا إلى التتويج الفرنسي الوحيد ببطولة دوري أبطال أوروبا على حساب ميلان الإيطالي في 1993.

بعد التتويج الأوروبي بعام واحد، ذاع صيت كبرى الفضائح الكروية عبر تاريخ فرنسا.

Image may contain: 2 people, people playing sports and outdoor

اتهامات بالرشوة والتلاعب في النتائج وتعاطي المنشطات كانت كفيلة بتجريد نادي الجنوب من لقب الدوري الذي فاز به في عام 1993 وهبوطه إلى الدرجة الأدنى، وحرمان مالك النادي من ممارسة أي نشاطات لها علاقة بكرة القدم، وصولا إلى صدور حكم ضده بالسجن في ذات الاتهامات بحلول شهر نوفمبر من عام 1995.

بهذه الطريقة، خفت نجم النادي الذي سيطر على الكرة المحلية لسنوات، فمن يستغل الفرصة هنا؟

بالكاد يتمم الفتى الصغير تيري عامه الـ17، وتكون بدايته مع نادي الإمارة في فريق نفس فئته العمرية.

ذلك الشاب اليافع الذي انتسب إلى فرنسا نتيجة ميلاده فيها، حاله كحال العديد من مواليد العقود الأخيرة داخل الأراضي الفرنسية، حيث يحمل أصولا من دولة جوادلوب التي ينتمي إليها والده "أنطوان"، كما يحمل أصولا من دويلة مارتينيك -وكلا الدولتان واقعتان في نطاق البحر الكاريبي-، حيث نشأت والدته "ماريز".

أحب أنطوان كرة القدم وأحب أن يرى طفله لاعبا، فأشركه في تدريبات لعديد من الأندية المحلية المجاورة لـ "ليزولي" حيث نشأ هنري الصغير، وكان الأمر الكبير في عام 1990.

تحت أنظار "أرنولد كاتالانو"، كبير كشافي نادي موناكو، كانت هناك مباراة بين فريقين من الشباب تحت سن 14 عاما.

كاتالانو جاء خصيصا لمشاهدة الفتى الذي سجل جميع أهداف فريقه دون منازع في مباراة انتهت بالانتصار بسداسية نظيفة!

عرض كاتالانو على تيري أن ينضم لموناكو مباشرة دون حتى الخضوع لفترة اختبار في البداية، ونصحه بالانضمام لأكاديمية "كليترفونتين" التي ساهمت في تخريج جيل من اللاعبين المميزين الذين ساهموا فيما بعد في تتويج فرنسا الأول تاريخيا بالمونديال.

كانت هناك صعوبة في فكرة انضمام تيري للأكاديمية التي تشترط تميز درجاته العلمية، ولكنه انضم لها على كل حال وأكمل دورته التدريبية هناك، ليصبح جاهزا للاشتراك مع ناديه الجديد.

التطور الطبيعي لأي لاعب شاب في منظومة موناكو هو التدرج من فريق الشباب إلى الفريق الرديف الذي يجمع أفضل اللاعبين الشباب بالإضافة إلى بعض لاعبي الفريق الأول الذين قد لا يكونوا جيدين بما يكفي للتواجد في القائمة الرئيسية، ومن ثم تأتي مرحلة الفريق الأول على قمة درجات التطور.

ما حدث هو أن الفتى هنري تجاوز تلك المرحلة الوسطى، ليحصل على فرصته الأولى مع الفريق الأول تحت قيادة آرسين بعد عامين فقط من وصوله للنادي.

الظهور الرسمي الأول كان في 31 أغسطس لعام 1994، مباراة خسرها فريق الإمارة ضد نيس بثنائية نظيفة، ولكن كل ما هو تالي في مسيرة ذلك الشاب كان تاريخا.

يقول كاتالانو عن اكتشافه: "لقد كان بالفعل ناضجا للغاية. كان هادئا ولم يفتعل أي مشاكل. لا صراعات مع أشخاص. فقط يلعب ويتدرب ويسجل العديد والعديد من الأهداف ويساعد الفريق على الانتصار. الأمر سار بهذه البساطة".

وأضاف "تيري عرف تماما ماذا يريد وكيف يحققه. لقد أصبح أكثر صلابة بعد انضمامه لكليرفونتين ولكن فقط لدرجة معينة".

ويتابع "هناك فرق دائما بين الشخص المجتهد باحثا عن التميز لأجل التميز، وبين ذلك الشخص الذي يعمل بجد فقط ليحصل على تلك الوظيفة وينال إعجاب مديره".

الذكاء الفطري، سرعة البديهة، وسرعة التقاط المعلومة وفهم أمور كرة القدم والإلمام باللكنات الأجنبية، كلها أمور جعلت تيري متميزا على مدار مسيرته.

ربما ما هو تالي ذكره يوضح بشكل أكبر لماذا تميز تيري طوال سنوات، ولماذا نال تلك الفرص عن استحقاق، وهي فلسفة قد يتبعها أيضا ويضعها معيارا في حكمه إذا صار مديرا فنيا.

"إذا لم أكن أنا لأنجح، لكان شخصا آخر فعل".

يقول تيري تلك الكلمات خلال زيارته للشباب في أكاديمية كليرفونتين في عام 2009، بعدما بلغ قمة المجد وصار بطلا للعالم وأوروبا.

وتابع "الشيء الأكثر صعوبة في كرة القدم هو أننا علينا أن نلعب سويا وأن ننجح سويا. لو لم يفز الفريق لما حصل أي عنصر على الإشادة. إذا كانت في جعبتك كرة عليك تمريرها –وهذا يعني أن شخصا آخر غيرك سيسجل هدفا- فعليك أن تمنحها إياه، حتى لو نتج عن ذلك في النهاية أن تصبح غير مرئيا".

وأضاف "علينا أن نحاول العيش جميعا كمجموعة متحابة. لا مكان للغيرة. لكن ذلك ليس سهلا في تلك المرحلة العمرية. دائما تبحث عن أضواء النجومية وربما التفكير بالفتيات وأن تظن نفسك شخصا آخر غير حقيقتك".

وأكمل "إذا لم تذهب لفراشك مبكرا، غيرك سيفعل. إذا لم تقم بواجباتك، غير سيقوم بها بالنيابة عنك. أحيانا أقابل بعض الأصدقاء من تلك الأيام القديمة ويستمرون بإخباري عن كم كنت محظوظا. في الواقع لم أكن محظوظا، لقد عملت بجد".

في نفس الشأن، كان لتيري تصريحا لمجلة "سبورت" في عام 2008 عن الحياة في أكاديميات الناشئين.

وقال: "الحياة في أكاديميات كرة القدم مثل الحرب. الجميع يظنون أن الأمور وردية هناك، ولكننا مجموعة من 24 لاعبا يافعا، وفقط هناك واحد منا سيفعلها في النهاية. نواجه بعضنا البعض ونتصافح متمنين لبعضنا التوفيق، ولكن في الواقع كل فرد ينتظر أن يقع الآخر على وجهه. في ساحة اللعب الأمر لا يخلف كثيرا. مجموعة من الشبان في عمر الـ15 عليهم أن يلعبوا سويا. الأمر مثل الغابة!"

سرعة الركض، سرعة البديهة، النضج، هي مقومات رائعة في أي لاعب شاب ولكنها غير كافية للنجاح دون عمل جاد.

مقومات امتاز بها هنري في صغره، ولكنها لم تكن كافية دون نصائح كاتالانو التي تأثر بها وحرص على نقلها للجيل التالي فيما بعد.

أخبره كاتالانو يوما ما "أنت، أذا لم تنجح فهناك شخص واحد فقط لتلومه. فقط نفسك، لأنك لم تعمل بشكل كاف".

لم يكن تيري جيدا بما يكفي في بداياته في الضربات الرأسية، وهو أمر معيب بالنظر للاعب يمتلك مقوماته الجسدية ومرونته، فعمل على تطوير ذلك وحرص على تطوير نواقصه.

جيل جريماندي، وهو مدافع فرنسي زامل هنري في بداياته في موناكو ثم فيما بعد خلال سنوات لمعانه في أرسنال، يتحدث عن تيري "لديه موهبة فطرية لتحليل أدائه. يخبر نفسه على الدوام: كان علي أن أفعل ذلك، ولم يكن علي أن أفعل ذاك. كان يعرف الكثير كذلك عن اللاعبين الآخرين، ويستطيع إيجاد نقاط الضعف في المنافسين. كان يحبذ فكرة اللعب ضد أليساندرو نيستا، وكان مصمما أن المدافع الإيطالي لن يستطيع مجاراته إذا تعلق الأمر بالسرعة".

جريمالدي يتحدث هنا عن الشاب تيري في نشأته الأولى في 1993 تحديدا، وليس ذلك الكاسر للأرقام القياسية مع حلول القرن الحادي والعشرين.

كل التفاصيل تظل عالقة في ذهن تيري، كل صغيرة وكبيرة يستطيع أن يستفيد منها.

في سبتمبر 2005، سجل تيري هدفا رائعا في شباك أيرلندا في "دبلن" ساهم في تأهل فرنسا إلى نهائيات كأس العالم 2006.

بعد المباراة، خرج تيري بالتصريح التالي: "أود أن أهدي ذلك الهدف إلى كلود بويل!"

نعم، لقد أهداه لذلك الرجل الذي عمل مدربا ومعدا بدنيا في أكاديمية موناكو قبل 12 عاما من ذلك الهدف، والذي أصبح فيما بعد مديرا فنيا لليون، ويذيع صيته في الأيام الحالية في سماء الكرة الإنجليزية بمستويات مميزة يقدمها ليستر سيتي.

يتابع تيري: "لقد وضع أقماع التدريب في الملعب وجعلني أتحرك بينها بشكل متتالي ومتكرر كنوع من التدريب، ومن ثم إنهاء الكرة في أعلى مكان ممكن في الزاوية المعاكسة لاتجاهي. ذلك الهدف ضد الأيرلنديين صنع في موناكو!"

خارج الملعب، تيري كان رائعا كما وصفه روبرت بيريس مختصرا كل الأوصاف المثالية.

بيريس انتقل لأرسنال بعد سنوات من وصول مواطنه هنري إلى هناك، وفي الأيام الأولى ضمه تيري إلى كنفه.

وقال: "كان يطهو باستا رائعة، كما عرض عليّ البقاء معه لحين حصولي على سكني المناسب المستقل".

ولكن كل ما يفعله كان يبدو محسوبا وبمحاذير، وكما يوضح جريماندي فيما بعد.

وقال: "كانت لديه نفس الطريقة عندما وصل إلى موناكو، ولكن مع هؤلاء اللاعبين في نفس عمره فقط".

وأضاف "كان يحمل الاحترام لمن هم أكبر منه سنا، ولكن مع تقدم الوقت وتغير وضعه في الفريق وتقدم عمره، أصبح يقبل القليل من أقل دائرة ممكنة من الناس".

وأكمل "لقد كان بارعا. يبدو خجولا في البداية في تعاملاته، وبمجرد حصوله على القبول من الآخرين، يمكنه أن يمضي قدما. يمكن أن ينتقل إلى أهداف أخري وإلى أشخاص آخرين".

وتابع "طريقته في إبداء الاحترام ليست الخصلة الأهم على الإطلاق، ولكنها كانت أداة هامة للغاية من أجل البقاء في المقام الأول، ومن أجل التمكن لاحقا"

حصل تيري على ظهوره الأول تحت قيادة فينجر ضد نيس، ولكن البدايات لم تكن رائعة.

البرازيلي سوني أندرسون كان المهاجم الرئيسي للفريق، ومع توالي إصاباته وغياباته، كان لا بد أن يجد فينجر بديلا مناسبا.

تجاوز الرجل الفرنسي كل الحلول المتواجدة في الفريق الرديف، وقرر النظر مباشرة إلى ذلك الفتي الذي سجل 30 هدفا في أول مواسمه مع فريق ذوي الـ17 عاما، بالإضافة إلى 11 هدفا أخرى مع منتخب فرنسا الشاب لنفس الفئة العمرية.

لكن في الظهور الأول ضد نيس، لم يبد تيري كحل مرجو على الإطلاق، فغادر بعد 61 دقيقة.

المباراة التالية كانت ضد لو هافر، حيث تلقى موناكو هزيمة أخرى بهدف نظيف، وشارك تيري في النصف ساعة الأخير كبديل دون أن يصنع فارقا يذكر.

الرجل الذي رفض فرصة تدريب بايرن ميونيخ فقط في الصيف السابق لتلك الأحداث، تعرض للإقالة مباشرة بعدما أصبح الفريق على بعد 3 نقاط فقط عن منطقة الهبوط بعد مرور 7 جولات من عمر ذلك الموسم.

كان أمرا صادما للأوساط الكروية في فرنسا. الكثير من الفوضى داخل بيت فريق الإمارة. ظل البحث عن بديل في المقعد الفني دون جدوى، حتى توصلت الإدارة لاتفاق مؤقت مع لاعبين سابقين في الفريق: جين بوتي وجان لوك إيتوري وفي مقدمتهما جيرار بانيد، لقيادة الفريق فيما تبقى من الموسم.

صعود تيري توقف مؤقتا، حيث قرر الثلاثي الاعتماد على عناصر الخبرة المتواجدة من أجل العبور من ذلك المأزق.

الأمور سارت على ما يرام، حيث صعد الفريق سريعا إلى ثلاثي مقدمة جدول الترتيب.

ذلك الاستقرار منح الفرصة لتيري للظهور مرة أخرى في بعض المواجهات كبديل، ولكنه لفت الانتباه بشدة في ليلة 28 إبريل من عام 1995.

إصابة في الرأس لمهاجم الفريق الأساسي ميكايل مادار أجبرت بانيد على إشراك تيري ليشكل ثنائية هجومية هائلة فيما تبقى من المواجهة مع يوري دجوركاييف، فكانت سداسية في شباك الخصوم، وكان لتيري ثنائية منها.

كان ذلك بعد أشهر قليلة من تألقه مع فريق فرنسا الشاب ضد إنجلترا، حين سجل ثنائية مميزة.

قال عنه المخضرم جيرار هولييه، وكان يشغل منصب المدير التقني للاتحاد الفرنسي لكرة القدم في تلك الفترة: "لديه القدرة على التغلب على أي مدافع. إنه مميز للغاية عندما تكون الكرة بين أقدامه. لديه طاقة كبيرة كافية للمرور من المنافسين. إنه مهاجم من أجل المستقبل".

في الحقيقة أن تلك القوة وذلك التطور في مسيرة تيري لم يكن فقط نتيجة موهبة فطرية، ولكن جاءت نتيجة لاستغلال كل العوامل المحيطة الممكنة.

كان تيري مولعا بكرة السلة، وكان لاعبه المفضل مايكل جوردان. يمكنك حتى أن تستنتج ذلك من خلال غالبية احتفالات تيري طوال مسيرته بعد تسجيل للأهداف. تلك الملامح الجامدة على وجهه التي تعبر عن الثقة، تماما مثل مايكل.

لوران بانيد –المدير الفني المؤقت في عام 1995 والذي عاد لشغل المنصب في 2011- يتذكر بدايات تيري: "لقد كانت له ركضة مميزة. يميل قليلا إلى اليسار ثم يجهز قدمه اليسرى من أجل التصويب بقوة بباطن قدمه. ذلك الأسلوب كان نتيجة لولعه بتفاصيل كرة السلة التي كان يتدرب عليها بعد إنهاء بعض الحصص التدريبية في الصالة الرياضية".

ليس هنري وحده من استفاد من ذلك في عالم كرة القدم. الإيفواري ديديه دروجبا، اسم آخر له شأنه، اعتاد التدرب كثيرا على ممارسة كرة السلة من أجل تقوية عضلات الجزء الأعلى من جسمه، ومعرفة طريقة كيفية التغلب على المدافعين والحفاظ على الكرة والتقدم بها حين يكون ظهره بتجاه المرمى".

لم يظهر تيري كثيرا فيما تبقى من ذلك الموسم المأساوي لموناكو، ظل بديلا في خطط بانيد حتى المباراة الأخيرة من الموسم التي شارك فيها، وشهدت هزيمة بثنائية نظيفة ضد ميتز.

في هذه المرحلة العمرية، تدور العديد من الأفكار داخل رأس أي لاعب شاب.

الرغبة في المضي قدما والتألق، اعتقاد أن الوقت قد حان لتسليط الأضواء. كل ذلك عوامل قد تؤدي لأن يدمر أي لاعب شاب نفسه بنفسه.

وهذا ما توجب على المدير الفني التالي واللاعب الأسطوري السابق، جين تيجانا، بأن يتعامل معه.

قبل بداية الموسم التالي، كان لتيجانا لقاء صحفي مع إحدى وسائل الإعلام الفرنسية للحديث عن فريقه وأبرز المواهب التي يتوقع صعودها.

ركز تيجانا على عدة أسماء في مقدمتها الظهير الأيسر للفريق دوس سانتوس، دون أن يذكر تيري في حديثه.

صاحب كل ذلك بقاء تيري في حسابات المدير الفني، ولكنه قرر الاستعانة به على الدوام كلاعب "جوكر" يأتي بديلا في الدقائق الأخيرة.

تيجانا كان يعلم قدرات لاعبه الشباب جيدا، كما أنه كان ضمن قلائل اعتقدوا أن تيري يستحق مكانا في قائمة الديوك المشاركة في المونديال بعد عامين تقريبا من تلك الأحداث.

لكنه كان يرى ذلك مناسبا لكبح الجماح، وحتى لا يدمر تيري نفسه من خلال أفكاره السلبية وإصغائه لبعض أصدقاء السوء في تلك الفترة، والذين حثوه على التمرد.

كان موناكو في مرحلة إعادة بناء، بعدما استغنى عن مهاجمه دجوركاييف لمصلحة باريس سان جيرمان، ولكن في المقابل استقطب بعض الأسماء الأخرى وفي مقدمتها حارس المرمى فابيان بارتيز من مارسيليا، مع وجود بعض المواهب التي تستحق المساحة لإثبات قدراتها، ولا يزال تيري في الصورة.

انتظر تيري حتى حلول الجولة الـ12 من ذلك الموسم ليحصل على مكان أساسي في تشكيلة تيجانا، حيث شارك وسجل ثاني أهدافه في ذلك الموسم ضد مونبيلييه.

النصف الثاني من الموسم كان رائعا لتيري. كان البرازيلي سوني أندرسون هو الخيار الرئيسي في مركز رأس الحربة، وسجل بنهاية الموسم 21 هدفا في 34 مشاركة.

لكن بالتوازي، قدم هنري ما قد يجعله يستحق بأن يكون خيارا في الحسبان بتسجيله لـ3 أهداف وصناعته لـ5 أخرى في 18 مشاركة على مدار الموسم.

مقومات تيري الشخصية جعلته يتجاوز تلك الفترة بشكل ناجح أيضا. لم يعترض على عدم المشاركة ولم يبد امتعاضا، ولكنه كان يستثمر تلك الفترة بشكل جيد.

أبرز ما قام به هو تكون صداقة مع أندرسون، السير على خطاه ومحاكاته.

كان ذلك بارزا في بعض التصرفات التي لازمت اللاعب الفرنسي حتى نهاية مسيرته، مثل حرصه على رفع الجوارب لأعلى الركبة تماما كما كان يفعل أندرسون.

في صيف 1997، كان أندرسون هو الشغل الشاغل في سوق كرة القدم، فحصل على انتقال مربح للغاية لنادي الإمارة الفرنسية، منتقلا إلى برشلونة.

لم يكن الأمر بالنسبة لتيري بمثابة انتظار حتى يشغل مكانه، ولكنه استغل كل ذلك للتطوير من مهاراته سواء داخل أو خارج الملعب.

الموسمان التاليان شهدا المزيد من التوهج للفتي الذي برع في مركز الجناح ولكنه كان أفضل على الدوام عندما يكون في مواجهة المرمى.

92 مشاركة في موسمين شهدا تسجيله لـ21 هدفا في مختلف البطولات، بجانب مساهمته في تتويج نادي الإمارة بلقب الدوري في موسم 1996/1997.

كان ذلك بجانب تألق كبير مع منتخب فرنسا الشاب والمساهمة في التتويج ببطولة أوروبا لعام 1996، وذلك ما دفع المدير الفني إيمي جاكيه فيما بعد لاستقطابه على رأس مجموعة من الشبان خريجي أكاديمية "كليرفونتين" ليكونوا ضمن قائمة الديوك المشاركة في كأس العالم في ضيافة بلاد النور.

في نهاية المنافسات، حمل ديديه ديشامب الكأس العالمية الأولى في تاريخ البلاد كقائد للفريق، كما حملها تماما بعد 20 عاما بالتمام والكمال في روسيا، ولكن من مقعد المدير الفني.

هنري كان الإسم الأبرز تهديفيا للديوك في ذلك المونديال. 3 أهداف لا يبدو رقما كبيرا ولكنه كان كافيا لأن يكون ذلك الشاب على رأس قائمة هدافي بلاده في تلك النسخة.

توهج تهديفي تُوج باللقب العالمي، وكان كل ذلك بداية لمسيرة دولية رائعة ضمت 51 هدفا دوليا في 123 مشاركة مع الديوك.

التتويج في 1998 كان الأبرز، ولكن صاحبه فيما بعد تتويجا أوروبيا في عام 2000، وآخر بلقب كأس القارات في 2003، وكان هنري ورفاقه قريبين في 2006 من ملامسة كأس الذهب مرة أخرى لولا الهزيمة أمام إيطاليا من علامة الجزاء.

الموسم التالي لإنجاز المونديال كان للنسيان في مسيرة الغزال الأسمر، ما بين عدم التركيز مع موناكو وانتقال مأساوي إلى يوفنتوس، قبل أن ينتشله فينجر من جديد ليصنعا سنويا سنوات المجد في "هايبري".

* جميع المعلومات والتصريحات المذكورة في التقرير مصدرها الفصل الثالث من كتاب السيرة الذاتية لـ تيري هنري .. "Thierry Henry: Lonely at the top" من تأليف الكاتب "فيليب أوكلير" ..

التعليقات