شتازي وكرة القدم.. سنوات مطاردة الألقاب واغتيال الهاربين

في 8 مايو 1945، وقّع المارشال فيلهلم كايتل على وثائق استسلام ألمانيا وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

كتب : زكي السعيد

الخميس، 29 أكتوبر 2020 - 17:38
لوتس إيجندورف - شتازي

في 8 مايو 1945، وقّع المارشال فيلهلم كايتل على وثائق استسلام ألمانيا وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

كان ذلك اليوم إعلانا عن انتهاء حرب دمّرت أجزاءً عدة من العالم، وبداية حرب أخرى مختلفة تمامًا: الحرب الباردة.

قُسمت ألمانيا بين دول الحلفاء المنتصرة في الحرب، حتى انحصر النفوذ بين قسم شرقي يتسيده الاتحاد السوفيتي، وجانب غربي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.

في عام 1949، أُسست جمهورية ألمانيا الاتحادية، أو ألمانيا الغربية كما تُعرف في تسميتها غير الرسمية، وقامت على أسس رأس مالية برعاية أمريكية.

في المقابل، وبعد أشهر قليلة، خرجت جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى النور، أو ألمانيا الشرقية كما تُعرف أيضا في تسميتها غير الرسمية، وبالطبع كانت الاشتراكية منهجا لها برعاية سوفيتية.

في أغسطس 1961، وسعيا لمنع مواطنيها من العبور غربا، أقامت حكومة ألمانيا الشرقية جدار برلين الذي سيظل شاهدا على تفرقة اقتصادية وسياسية وثقافية شاسعة بين البلدين لقرابة الثلاثين عاما التالية.

وبينما مضت ألمانيا الغربية في طريق التخلص من سموم النازية واستعادة عافيتها بعد الحرب، غرقت ألمانيا الشرقية في جرف الشيوعية واحتاجت إلى منظمة تحافظ على استقرارها لعدة عقود من الزمان.

جهاز أمن الدولة، أو كما يُعرف بـ شتازي Stasi، كان المنظمة التي اشتهرت بها حقبة الشيوعية في ألمانيا الشرقية.

شتازي لم يكن مجرد جهاز حكومي قمعي، بل لعله أحد أكثر منظمات الشرطة السرية والاستخبارات كفاءة على مر التاريخ.

وظيفته كانت بسيطة للغاية: إبادة أي معارضة محتملة قد تهدد نظام الحكم، وكان ذلك يتم بوسائل عدة، أبدع عناصر شتازي في تنفيذها.

فخلال 40 عاما من وجوده، احتجز شتازي أكثر من 250 ألف معتقل سياسي، إلا أن الاختفاء القسري والاعتقال والتعذيب وحتى الإعدام، لم تكن الأساليب الأساسية التي انتهجها شتازي في كبح المعارضة.

بالأحرى، تلك الأساليب هي تقليدية للغاية بالنسبة لـ شتازي.. لكن ماذا عن تدمير حياة المُستهدَف؟

لو بدا أن شخصا يتحدى الحزب الشيوعي أو يرغب في معارضته، فإنه لن يختفي بكل سهولة، وإنما ستختفي الأشياء من حوله.

أولا، سيمتلأ منزله بأجهزة التنصت، أي شق صغير في الجدار هو كاميرا محتملة. ثانيا، سيُراقَب على مدار الساعة، وسيُفتح ملف بكامل تحركاته.

ثالثا، سيتم تجنيد من حوله، جيرانه، أصدقائه، بل حتى عائلته وأقرب المقربين إليه، يمكن أن يتم ذلك عن طريق الترغيب وعرض مزايا اجتماعية على هؤلاء المخبرين.

أو بالترهيب، بالطبع لو طُلب منك التجسس على جارك حتى لا يُطرد ابنك من مدرسته، قد تبدأ في التفكير وإجراء الحسابات داخل رأسك.

رابعا، سيُضيّق عليه الخناق، سيفقد وظيفته على الأرجح لأن شتازي يسيطر على كل شيء، سيجد سيارته مخربة، أو يدخل منزله ليدركه منهوبا.

خامسا، ستروج الشائعات في حقه، أو يُفضَح ما تخبئه الجدران، سيطارده العار المجتمعي، سيُدفَع إلى الفشل والبطالة، ستنتهي حياته العملية وتُخرَّب علاقاته الإنسانية.

كثير من المعارضين دُمرت حياتهم تدميرًا دون أن تطأ أقدامهم المعتقل حتى، وصارت المصحات النفسية ملاذهم الأخير بعد أن نبذهم المجتمع بفعل أساليب شتازي العجيبة.

عدد العاملين في شتازي بدوام كامل وصل إلى 90 ألف شخص في قمة عنفوان المنظمة، بالإضافة إلى مثل هذا الرقم مضروبا في اثنين من المتعاونين غير الرسميين بين مواطنين ومخبرين.

بحساب آخر، فأمام كل 180 مواطنا بألمانيا الشرقية، كان هناك موظف لـ شتازي، وهي نسبة عالية للغاية لجهة رقابية.

وحتى نستوعب هذا الرقم، فيكفي القول إن الاتحاد السوفيتي زعيم الكتلة الشيوعية كان جهازه الأمني يضم موظفا مقابل كل 600 مواطن.

أمّا تشيكوسلوفاكيا، فكانت موظفا أمام كل 800 أو 900 مواطن، بينما موظف لكل 1500 مواطن في بولندا.

ويُعتقَد أن أكثر من ثلث الشعب الألماني كان تحت الاشتباه أو الرقابة المباشرة، أو على الأقل هذا ما تم توثيقه.

وعلى قمة هذا السلاح الاستخباراتي الفعّال، كان إريك ميلكه، الذي ظل في منصبه رئيسا لـ شتازي لمدة 32 عاما حتى انهارت الاشتراكية وتوحّدت ألمانيا.

ميلكه القيادي الأكثر خطورة وسطوة في ألمانيا الشرقية، كان مهووسا بكرة القدم، وترسخت لديه قناعة أن الرياضة هي بدورها إحدى وسائل تدعيم حكمه وزيادته استقرارًا.

وفي بلدة هونشونهاوزن أقصى شرق برلين، تواجد سجن شتازي الشهير الذي كان شاهدا على آلاف عمليات التعذيب والاعتقال والاختفاء القسري.. في نفس البلدة، تواجد ملعب دينامو برلين أيضا.

ولعل المعتقل والملعب لا يمتلكان استخداما متشابها، لكن بالنسبة لـ منظمة شتازي فقد كان هدفهما واحدا في النهاية.

تأسس نادي دينامو برلين عام 1954 تحت مظلة شتازي، وبات إريك ميلكه رئيسه الشرفي.

وقد كان عاشقا للنادي بحق، عكف على حضور أغلب مبارياته، ونظّم الاحتفالات الكبيرة بعد تتويجه بالألقاب.

كان يطلق على لاعبي الفريق "فِتيتي"، وظهر معهم في العديد من المناسبات، كانت الابتسامة ترتسم على أوجه اللاعبين، لكنها على الأرجح ابتسامة توتر.

وبالطبع لم يكن شتازي ليقبل بمجرد نادٍ، بل بحثوا عن تأسيس أقوى نادٍ في ألمانيا الشرقية.

سيطر دينامو برلين على حركة الانتقالات، واستقدم أفضل لاعبي ألمانيا الشرقية إلى صفوفه، فمن يستطيع أن يرفض طلب شتازي؟

بدأ الفريق في تثبيت أقدامه تدريجيا، فحل وصيفا لدوري ألمانيا الشرقية عام 1960، مركز متقدم كرره عام 1972.

في نفس ذلك العام، حقق دينامو برلين إنجازا قاريا كبيرا، ووصل إلى نصف نهائي كأس الكؤوس الأوروبية.

تواجه دينامو برلين مع دينامو موسكو في دربي شيوعي ناري، والتعادل 1-1 كان المسيطر ذهابا وإيابا، ليلجأ الفريقان إلى ركلات الجزاء التي أعلنت عن انتصار الزعيم السوفيتي.

لكن التوحُش المحلي تحقق بنهاية السبعينيات عندما فاز دينامو برلين بلقب الدوري للمرة الأولى، وسيتبعه بتسعة ألقاب أخرى متتالية.

بين 1979 و1988 فاز دينامو برلين بكل ألقاب الدوري الألماني الشرقي، وهو رقم قياسي كان نتاجا طبيعيا لرعاية شتازي المكثفة.

لكنها 10 ألقاب متتالية مليئة بالشبهات، أو هكذا يميل معارضو نظام الحكم الشيوعي القمعي إلى الاعتقاد.

هانز ليزكه، مؤرخ أصدر عدة كتب عن كرة القدم في ألمانيا الشرقية، يقول: "دينامو برلين تلقى محاباة كبيرة من التحكيم طوال سنوات سيطرته".

"سمح الحكام لـ دينامو برلين بتسجيل أهداف من حالات تسلل صارخة، كما احتسبوا له ركلات جزاء غير صحيحة، وتغاضوا عن تصفير المخالفات التي يرتكبها لاعبوه أو لمسات اليد في حقهم".

يذهب ليزكه أبعد من ذلك ويزعم: "تعمّد الحكام إشهار بطاقات صفراء في وجوه لاعبي الفرق الأخرى قبل مبارياتهم أمام دينامو برلين، حتى يتم إيقافهم ويغيبون عن المواجهة".

في المباريات الخارجية، كانت جماهير الفرق الأخرى تستقبل لاعبي دينامو برلين بلافتات ساخرة مكتوب عليها: "مرحبا بـ دينامو برلين وحُكامه".

بيرند هينيمان الحكم السابق في ألمانيا الشرقية، صرّح ذات مرة: "بعد إحدى المباريات التي خسرها دينامو برلين، جُمع كل الحكام وتم إخبارهم: هذا الأمر لا يجب أن يتكرر مجددا".

لكن يورن لينتس اللاعب السابق للفريق لا يرى الأمر بهذه الصورة: "لا يمكنك التلاعب بعشرة ألقاب دوري، كنا الفريق الأكثر مهارة ولياقة والأفضل على مستوى العقلية، امتلكنا لاعبين مذهلين".

فيما يتبنى لاعب سابق شهير في دينامو برلين، فالكو جوتس، وجهة نظر أكثر وسطية.

يقول جوتس نجم الفريق في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات: "من الممكن أن بعض الحكام تلاعبوا بقراراتهم بسبب الضغط الرهيب الواقع عليهم من الحكومة وشتازي، ربما هذا جعل بعضهم متوترا وأثّر على قراراتهم. لكننا كنا أقوى فريق في تلك الحقبة، لم نكن نحتاج مساعدتهم".

وقلت إن جوتس لاعب شهير، ليس لما قدّمه داخل الملعب، وإنما بسبب مغامرته الجريئة عام 1983.

جوتس وزميله ديرك شليجيل انشقا عن ألمانيا الشرقية وقررا اللجوء إلى نظيرتها الغربية، هروب تاريخي حدث خلال إحدى مباريات دينامو برلين في دوري أبطال أوروبا، سنتطرق إليه في الجزء الأخير من هذا التقرير.

بالعودة إلى المؤرخ ليزكه، فإنه يذهب أبعد من القرارات التحكيمية الجدلية، ويزعم أيضا أن لاعبي دينامو برلين تعاطوا المواد المنشطة باستمرار.

نظريته تلك قد تحظى ببعض المصداقية، خصوصا بعد ظهور عينة اللاعب جوتس إيجابية في إحدى مباريات دوري أبطال أوروبا.

يقول جوتس تعليقا على ذلك: "لم أكن على دراية بأنني تعاطيت أي شيء قطعا، هذه المواد أضيفت إلى مشروباتنا، نحن لم نتعمّد تعاطيها".

وبصفتهم نادي السلطة، فقد تمتّع لاعبو دينامو برلين بالعديد من المميزات، أجورهم كانت مرتفعة بالمقارنة مع المواطنين الكادحين في دولة ذات اقتصاد منهار.

استطاع اللاعبون امتلاك سيارات لادا الروسية التي كانت رفاهية كبيرة في ألمانيا الشرقية.

حتى رحلاتهم الخارجية في المباريات الأوروبية كانت امتيازا حصريا لهم رغم التضييق والرقابة التي فُرضَت عليهم خلال هذه السفريات.

بل تنعّم لاعبو دينامو برلين بالفاكهة التي كانت نادرة للغاية ولا يتحمّل مواطنو ألمانيا الشرقية تكلفتها.

يقول ليزكه: "اللاعبون كانوا يُقابلون عدائية شديدة من الجماهير عندما يظهرون حاملين الموز الذي كان صعبا الحصول عليه في ألمانيا الشرقية".

بحلول حقبة الثمانينيات، كان الشعب الألماني على حافة الانفجار بعد عقود من القمع والرقابة المشددة، وهذا انعكس على دينامو برلين الفريق المدلل لـ شتازي رمز السلطة.

يقول فالديمار كسينتسيك اللاعب السابق للفريق: "شعب ألمانيا الشرقية أفرغ غضبه في وجوهنا، كنا نتعرض لمضايقات ونتلقى السباب في الملاعب لأن الجميع أرادنا أن نخسر".

الجماهير المنافسة كانت تهتف "خنازير شتازي" و"خنازير ميلكه".. بالطبع كان يتم اعتقالهم فورا.

مع هدم جدار برلين عام 1989 وسقوط ألمانيا الشرقية وانهيار الشيوعية، تم اعتقال ميلكه، وهاجم الشعب مقرات شتازي في كل أنحاء البلاد.

أُلغي دوري ألمانيا الشرقية، وسارعت أندية "بوندزليجا" باستقدام أبرز لاعبي دينامو برلين، لينهار النادي سريعا كما تلألأ سريعا.

بحلول عام 2002 كان دينامو برلين قد وصل به الحال إلى القسم الخامس، قبل أن يصعد للقسم الرابع في 2014، لكنه لم يستطع تجاوزه منذ ذلك الحين.

الاغتيال الغامض

في نهاية السبعينيات، برز اسم جديد في صفوف دينامو برلين: لوتس إيجندورف.

كان إيجندورف لاعبا مميزا للغاية، أطلقت عليه الجماهير "بيكنباور الشرق"، ويقال إنه كان اللاعب المفضل لـ إريك ميلكه زعيم شتازي.

خاض 6 مباريات دولية بالفعل مع ألمانيا الشرقية في سن صغيرة وسجّل خلالها 3 أهداف. في فبراير 1979 سيخوض مباراته الدولية الأخيرة أمام العراق، لأنه سيفر بعد شهر واحد.

في مارس 1979، تواجد دينامو برلين في ألمانيا الغريبية للعب مباراة ودية أمام كايزرسلاوترن، وفي اليوم التالي للمباراة وقعت الفاجعة على شتازي.

انشق إيجندورف فجأة عن البعثة، قفز في سيارة أجرة وفر هاربا، وطلب اللجوء السياسي في ألمانيا الغربية، وانضم إلى صفوف كايزرسلاوترن.

تعرض إيجندورف للإيقاف لمدة عام من الاتحاد الأوروبي لإخلاله بتعاقده مع دينامو برلين، لكنه عاد للممارسة كرة القدم بشكل طبيعي بعدها.

ولم يكن إيجندورف أول رياضي ينشق عن ألمانيا الشرقية، لكن هروبه كان محرجا للغاية للنظام الحاكم لأنه لاعب في دينامو برلين، النادي الخاص بـ شتازي.

وفوق ذلك، عكف إيجندورف على مهاجمة نظام ألمانيا الشرقية خلال مقابلاته الصحفية، وتسليط الضوء على أهوال الشيوعية التي يعانيها مواطنوه.

بات إيجندورف مهددا طوال الوقت، وفي كأس الاتحاد الأوروبي 1982 لم يستطع السفر مع فريقه كايزرسلاوترن لمواجهة أكاديميك صوفيا البلغاري، وسبارتك موسكو الروسي، لأن بلغاريا وروسيا كانتا حليفتين لـ ألمانيا الشرقية بالطبع.

لكنها كانت نفس النسخة التي شهدت إنجازا تاريخيا في ربع النهائي بإقصاء ريال مدريد.

كايزرسلاوترن خسر 1-3 في سانتياجو برنابيو، لكنه حقق ريمونتادا شرسة وفاز على أرضه إيابا بخمسة أهداف نظيفة على زعيم أوروبا، ليعبر إلى المربع الذهبي للبطولة.. كان ذلك آخر إنجاز كروي لـ إيجندورف الذي سيقضي نحبه في ظروف غامضة خلال عام من تلك الليلة التاريخية.

في 5 مارس 1983، بعد فترة قصيرة من انتقاله إلى نادي أينتراخت براونشفايج، كان إيجندورف يقضي أمسيته في حانته المفضلة رفقة أصدقائه، حتى ودّعهم ورحل في العاشرة مساءً.

أثناء قيادته سيارته عائدًا إلى منزله في تلك الليلة الممطرة، فقد إيجندورف السيطرة على سيارته، واصطدم بشجرة عند أحد المنعطفات.

تعرّض إيجندورف لإصابات بالغة في الرأس، وأظهرت الفحوصات التي أجريت له يومها وجود نسبة كحول مرتفعة في دمه جعلته يفقد السيطرة على سيارته.

بعد يومين، توفي إيجندورف في المستشفى، ولم تخضع جثته للتشريح، واستبعدت الشرطة أي شبهة جنائية في الحادث.. لكن.

خرجت العديد من النظريات التي تؤكد أنه تعرض للاغتيال بواسطة شتازي انتقاما منه بعد هروبه المحرج وتصريحاته العدائية.

تقول أرملته يوزيفين –التي تزوجها في ألمانيا الغربية-: "لم تكن من عادة لوتس أن يشرب حتى الثمالة أبدا".

ما يزيد من الوضع غموضا، أن العديد من شهود العيان في الحانة أكدوا في أكثر من مناسبة أنهم رأوا إيجندورف يشرب زجاجة أو زجاجتي بيرة على أقصى تقدير، وأنه كان في كامل رشده وغير مخمور لحظة مغادرته الحانة.

من حضروا الحادث، يقولون إن سيارة نقل كبيرة فتحت أضوائها الكاشفة الأمامية فجأة في وجه إيجندورف بينما كان في طريقه للمنعطف الذي شهد الواقعة، مما أفقده الرؤية لحظيا.. ويعد هذا الأسلوب مألوفا في حوادث الاغتيال التي يصعب إثباتها.

فيما تذهب ادعاءات أخرى إلى تعطل مكابح سيارته، مما منعه من تهدئة سرعته عند المنعطف، ليصطدم بالشجرة.

أمّا ما هو مؤكد، فهو أن إريك ميلكه لم يغفر له أبدا هروبه إلى ألمانيا الغربية.

عندما انشق إيجندورف، ترك خلفه زوجة وطفلة في ألمانيا الغربية، ليتحرك محامو شتازي على الفور ويتممون إجراءات طلاقها منه.

اهتمامهم بعائلته المهجورة كان كبيرا جدا، لدرجة أنهم كلّفوا عميلا سريا بالتودد إلى طليقته جابي، بل أنه تزوجها حتى، ثم تبيّن لاحقا أنه تقرّب إليها ليتمكّن من مراقبتها.

بالعودة إلى الحادث الغامض، وفي فيلم وثائقي صدر بعد سنوات، امتلك الصحفي هاربيرت شفان نظيرته لما حدث ليلة مقتل إيجندورف.

يزعم شفان أن عملاء شتازي اختطفوا إيجندورف، وسمموه بمزيج من الكحول والعقاقير المخدرة تحت التهديد بالقتل، ثم طُلب منه قيادة سيارته والابتعاد فورا، ليقود إيجندورف سيارته في ذعر شديد ويقع الحادث عند المنعطف.

بعد سقوط جدار برلين، بات مسموحا الولوج إلى الملفات السرية التي أعدها شتازي عن المواطنين، وتبيّن أن الشرطة السرية كانت تراقب اللاعب بالفعل وتعتبره خائنا.

تشير الملفات إلى إرسال 50 عميلا إلى ألمانيا الغربية خلال السنوات الأربع التي سبقت وفاة إيجندورف، لكتابة تقارير عنه بكامل تحركاته.

تقول أرملته يوزيفين: "لوتس كان خائفا طوال الوقت من أن يتعرض للاختطاف وأن يتم إعادته بالقوة إلى الشرق".

نوربرت ثاينز رئيس كايزرسلاوترن الذي ساعد إيجندورف بعد انشقاقه صرح: "أنا مقتنع أنه تعرض للاغتيال بواسطة شتازي".

في 2004، فتح مكتب النائب العام في برلين تحقيقا بشأن إمكانية تعرُض اللاعب للاغتيال، لكن القضية أُغلقَت مجددا لنقص الأدلة.

لكن في 2010 شهدت القضية منعرجا آخر، عندما اعترف كارل هاينتس فيلجنر عميل شتازي السابق أمام محكمة دوسلدورف أنه تلقى أوامر باغتيال إيجندورف، لكن العملية لم تتم.

مكتب النائب العام أراد إعادة فتح التحقيق مرة أخرى عام 2011، لكن بحلول ذلك الوقت، كانت كثير من وثائق شتازي المتعلقة بالقضية قد فُقدَت.. ليظل مقتل إيجندورف لغزا غامضا إلى الأبد.

الهروب العظيم

في ذروة عنفوان الحكم الشيوعي، وبالقرب من جدار برلين الذي يفصل ما يقع على الشرق عن العالم الخارجي، ترعرع الطفلان: فالكو جوتس، وديرك شليجيل.

كانا مهوسيين بكرة القدم، وقد قُسم عالمهما بين الخير والشر، الشرق والغرب، الإمبريالية الرأسمالية واليوتوبيا الشيوعية.. لكن الأهم بالنسبة لهما، كان حرصهما على عدم ذكر مشاهدتهما تلفاز ألمانيا الغربية سرًا في منزليهما.

انضما معا إلى ناشئي دينامو برلين، وفي 1979 سجّل جوتس ظهوره مع الفريق الأول بعمر السابعة عشر. أمّا شليجيل، فجاء ظهوره مع دينامو عام 1981 في عمر العشرين.

ومع سفرهما بشكل متكرر إلى بلدان أخرى رفقة دينامو برلين لخوض منافسات دوري أبطال أوروبا، بدأت فكرة شاذة في مداعبة ذهنيهما: الانشقاق.

بحلول 1983 كان الصديقان قد استقرا على خوض غمار أكبر مغامرة في حياتهما، ومحاولة الانشقاق عن ألمانيا الشرقية.. امتلكا خطة بالفعل لذلك، واحتاجا فقط إلى الوقت والمكان المناسبين لتنفيذها.

حتى يضعا خطتهما ويناقشاها باستفاضة، اضطر جوتس وشليجيل إلى السير لساعات يوميا في عُمق الغابة، كان ذلك المكان الآمن الوحيد الذي لن توجد فيه أجهزة تنصت تخص شتازي.

فكرة جوتس وشليجيل الأساسية كانت الهروب أثناء خوض فريقهما إحدى مبارياته في دوري أبطال أوروبا.

في ذلك الموسم 1983\1984، أوقعتهم القرعة في الدور الأول أمام يونيسي إسك بطل لوكسمبورج.

تقع دولة لوكسمبورج إلى الغرب تماما لـ ألمانيا، كما أنهما امتلكا صديقا يعيش في ألمانيا الغربية على الحدود تماما مع لوكسمبورج.. تلك كانت الفرصة المثالية لتنفيذ الخطة والهروب.

افتتح جوتس التسجيل لـ دينامو برلين في مباراة الذهاب على ملعبه، وانتصر الفريق 4-1.

مباراة الإياب كان مقررا إقامتها يوم 28 سبتمبر 1983، لكن خطتهما شهدت ضربة قوية عندما فشل صديقهما في الحصول على تصريح عبور الحدود إلى لوكسمبورج، وبالتالي لن يكون موجودا لانتشالهما.

رغم ذلك، قرر جوتس وشليجيل تنفيذ الخطة دون مساعدة، وقبل السفر مع بعثة الفريق، همس جوتس إلى والده في هدوء: "قد أرحل قريبا".. دون أن يعطيه أي تفاصيل أخرى.

أمّا شليجيل فكان أكثر حرصا، ولم يخبر أحدا، حتى والديه لم يعرفا بنيته.

ومنذ أن وطئت أقدامهما لوكسمبورج، بحث اللاعبان الشبان عن أي هفوة من رجال شتازي، لينشقا عن البعثة في سرية، لكن ذلك كان مستحيلا.

يقول شليجيل: "لم تسنح لنا أي فرصة على الإطلاق".

"في كل مكان ذهبنا إليه، الفندق، الغداء، التدريب، الملعب، كنا نجد "أصدقائنا" من شتازي في رفقتنا، وبالتالي كان الهروب خطيرا جدا علينا".

كان معتادا أن يسافر دينامو برلين إلى مبارياته الأوروبية بطائرة ميلكه الخاصة، وفي صحبتهم يكون عددا كبيرا من عملاء شتازي لمنعهم من الانشقاق.

يقول جوتس عن ذلك: "بعض مرافقينا كانوا في هيئة جماهير، لكنهم أبدا لم يكونوا كذلك.. عندما تكون في الطابق الرابع بالفندق وهناك شخصان يجلسان أمام السلم طوال الليل، فعندها ستدرك أنهما ليسا مشجعين بكل تأكيد".

فاز دينامو برلين 2-0 في الإياب، وعادت البعثة الألمانية الشرقية إلى بلادها دون نقص في عدد لاعبيها.

بعد أيام قليلة من إخباره أنه قد لا يراه مجددا، عاد جوتس ليحتضن والده فور رجوعه من لوكسمبورج.. لكنها لم تكن الفرصة الأخيرة.

في الدور التالي، وقع دينامو في مواجهة بارتيزان بيلجراد بطل يوغوسلافيا، وشهدت مباراة الذهاب في ألمانيا الشرقية فوز رفاق جوتس بهدفين دون رد بعد أن افتتح التسجيل بنفسه أيضا.

في لوكسمبورج الحراسة كانت مشددة على اللاعبين، لكن الوضع كان مختلفا قليلا في يوغوسلافيا، لأنها دولة شيوعية حليفة.

في 2 نوفمبر 1983، أثناء التواجد في بيلجراد، تحركت حافلة اللاعبين إلى قلب العاصمة، ثم توقفت، والتفت إداري في دينامو ليخبر اللاعبين: "لديكم ساعة من التجوال الحر، نلتقي هنا مجددا في الواحدة ظُهرا".

لم يكن جوتس وشليجيل جالسين على مقعدين متجاورين، لكنهما فور أن سمعا تلك الجملة تخرج من فم الإداري، نظرا إلى بعضهما، وأعينهما أخبرت عما يدور في عقليهما.. إنها اللحظة السانحة.

هبط جوتس وشليجيل من الحافلة، لم يقولا أي شيء، لكنهما كانا يعرفان تماما ما سيحدث في اللحظات التالية، كانت تلك الثواني القليلة كفيلة بتغيير حياتهما إلى الأبد.

تحرك لاعبو دينامو ودخلوا إلى متجر يبيع اسطوانات غنائية مستعملة، دخل جوتس وشليجيل معهم.

وبينما عكف كل اللاعبين على اختيار اسطواناتهم المفضلة، لاحظ جوتس وشليجيل بابا جانبيا غريبا، إنه مخرج خلفي غير الذي دخلوا منه!

اتسعت حدقات أعينيهما، تُرى ماذا يخبئ لهما هذا الباب؟ هل هو طريق مفتوح نحو الحرية؟ تأهبا في صمت وانتظرا اللحظة التي لم يكن أي من زملائهما منتبها إليهما فيها.. الآن!

يقول جوتس: "بمجرد أن خرجنا من هذا الباب، لم نفكر في أي شيء، كل ما شغل بالنا هو الركض بأقصى سرعة والابتعاد بقدر الإمكان".

ركض الشابان لمدة 5 دقائق متواصلة، هاربان نحو الحرية، ثم وجدا سيارة أجرة، قفزا في داخلها، لكن السائق شعر بالذعر ورفض أخذهما إلى سفارة ألمانيا الغربية.

خرجا، واستقلا سيارة أجرة أخرى، أعطيا السائق 10 ماركات ألمانية، كانت تلك قيمة حريتهما، لأنه وافق على أخذهما إلى السفارة.. الطريف أن السفارة كانت تبعد 1 كيلومتر فقط، لو كانا يعرفان ذلك لما تكبّدا عناء إقناع سائقي الأجرة بتسهيل هروبهما.

قبل نصف ساعة فقط كانا في الحافلة مع بقية الفريق، الآن هما يجلسان أمام موظفي السفارة الألمانية الغربية لبحث ما سيتم عمله تاليا.

بدا التوتر الشديد على وجهي الشابين، لكن موظفي السفارة كانوا أكثر هدوءا، وقرروا أولا أن يتم نقلهما سرا إلى مدينة زغرب التي تبعد 4 ساعات، لأن سفارة ألمانيا الغربية في بيلجراد هي أول مكان سيبحث فيه شتازي عن الثنائي الهارب.

لحسن حظ جوتس وشليجيل، فقد وصلا بأمان إلى زغرب بعد أن ماتا رعبا طوال الطريق خوفا من أن يُفضَح أمرهما.

في قنصلية ألمانيا الغربية بـ زغرب، حصل الثنائي على أوراق ثبوتية مزيفة تُظهِرهما مواطنين من ألمانيا الغربية.

سيستقلان القطار المتجه إلى ألمانيا الغربية، ولو سُئلا عن سبب امتلاكهما جوازي سفر فارغين، سيقولان إنهما كانا في إجازة في يوغوسلافيا وفقدا جوازي سفريهما واضطرا إلى استخراج جوازين جديدين.

كانت الساعة تشير إلى السادسة مساءً أثناء تلقيهما التعليمات من موظفي القنصلية، سيستقلان قطار منتصف الليل، ويجب عليهما الركوب مباشرةً قبل تحركه حتى يحدان من فرص فضح أمرهما.

موظفو القنصلية بدوا هادئين للغاية بالمقارنة مع الفتيين القادمين من ألمانيا الشرقية، على ما يبدو، كان تهريب اللاجئين عملا روتينيا بالنسبة لهم.

بالعودة إلى برلين، في السابعة مساءً، فتح والد ماركو جوتس التلفاز ليشاهد مباراة نجله أمام بارتيزان بيلجراد، كانت المباراة ستنطلق في الثامنة، لكن ما لاحظه الوالد أن اسم نجله ليس في التشكيل الأساسي على غير العادة.

نظر الوالد إلى قائمة مقاعد البدلاء، فلم يجد اسم ماركو، وعندما لاحظ غياب اسم ديرك شليجيل أيضا، أيقن أنهما قد فعلاها، يتبقى فقط السؤال: هل كُتب لهما النجاح، أم ألقي القبض عليهما؟

نُقل جوتس وشليجيل إلى مدينة ليوبليانا (تقع في سلوفينيا الآن) والتي كان سيتحرك منها القطار المتجه إلى ميونيخ.

اسم شليجيل الزائف كان نورمان ماير، أمّا جوتس فلا يتذكر اسمه الذي أنقذ حياته..

ركبا القطار، انتظرا في ترقب رجل الشرطة الذي يمر في الممر للتحقق من الأوراق الثبوتية، وعندما حضر إليهما، نظر في الأوراق، نظر إليهما، ثم قال: "حسنا".

دام الأمر برمته 20 ثانية فقط، بعد 12 ساعة قاتلة من التوتر والقلق، كانت 20 ثانية من الصمت هي كل ما احتاجه جوتس وشليجيل لمغادرة الحدود اليوغوسلافية والهروب من الكتلة الشيوعية إلى الأبد.

جوتس يتذكّر: "وصلنا إلى ميونيخ بحلول السادسة صباحًا، لا أصدق ذلك ولكننا تمكننا من النوم لبضعة ساعات خلال الرحلة حتى".

مع هبوطهما إلى محطة ميونيخ، كان بإمكانهما رؤية أسمائهما في صفحات الجرائد بالفعل: "لاعبا كرة قدم يهربان من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية".

في السابعة مساءً، سنحت لـ شليجيل أخيرا فرصة مهاتفة والدته، لم تكن تمتلك أي فكرة مسبقة عن خطته المجنونة.. "أخبرتها أنني بخير، هذا كل ما قلته، كنت أعرف أن شتازي يستمعون إلى المكالمة".

منذ يومهما الأول في ألمانيا الغربية، اتخذ الثنائي قرارا: لن يتحدثا مطلقا عن ألمانيا الشرقية في المقابلات الصحفية كما فعل سلفهما لوتس إيجندورف مما كلّفه حياته على الأرجح.

انضما معا إلى باير ليفركوزن، وانتظرا عاما كاملا حتى زال الإيقاف وبدأت حياتهما تأخذ شكلا طبيعيا في موطنهما الجديد.

في 9 نوفمبر 1989 انهار جدار برلين، وسنحت الفرصة أخيرا في ديسمبر التالي لـ جوتس حتى يزور منزله القديم في الجانب الشرقي من برلين لأول مرة منذ أن رحل معتقدًا أنه لن يعود.

عندما رجع جوتس إلى حيّه ومنزله، لم يجد شيئا قد تغيّر، كل شيء على حاله.. فقط ما تغيّر هي حياته بقرار جريء اتخذه قبل 7 سنوات.

مصادر:

موسوعة "بريتانيكا"

موقع "ذا لوكال"

صحيفة "ماركا"

موقع NDR

شبكة دويتش فيله

شبكة دويتش فيله

شبكة "سي إن إن"

موقع FEE

هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"

صحيفة "صن"

هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"