"مع قدوم الحرب العالمية الثانية اتجهت الكثير من العيون في أوروبا المحبوسة آملة، ويائسة، صوب الحرية في أمريكا. أصبحت لشبونه هي نقطة الإنطلاق الكبيرة. ولكن، ليس بإمكان الجميع أن يصل إلى لشبونه مباشرة. حينئذ، بدأ طريق متعرج وملتو حول أوروبا للاجئين ينشق.
من باريس إلى مارسيليا.. عبورا بمياه المتوسط إلى وهران.. ثم بالقطار، بالسيارة، أو على الأقدام عبر حافة إفريقيا إلى كازابلانكا في المغرب الفرنسية. هنا قد يحصل المحظوظين على تأشيرة خروج بالمال، النفوذ، أو حتى الحظ ليهرولوا إلى لشبونه ومن هناك إلى العالم الجديد. اما الآخرون فينتظرون في كازابلانكا.. ينتظرون.. وينتظرون.. وينتظرون"
الاختلاف في كازا هو أصل الأشياء. متوغل في شوارع المدينة بتفاصيلها كاملة.
ما بين المدينة القديمة، المدينة الفرنسية، والمدينة الحديثة بعد الاستقلال، هناك الكثير من أمواج الاختلاف المغلفة برائحة الأطلسي التي ضربت كازابلانكا. لا تدع منظور السائح يتحكم في نظرتك للأشياء هنا –التي تبدو ساكنة وجميلة بالفعل- فقد مرت عقود من الحركة الدائمة والحرب والهجرة والبناء والتطور.
من المغرب، من جنوب الرباط، تحديدًا على ساحل المحيط الأطلسي قف وارصد بعيونك الدار البيضاء، هذه التحفة التي كانت ميناءً صغيرًا وما لبثت أن تحولت لمدينة كبرى، أو بمعني أدق، وعاء صنعه الأمازيغ أصقله البرتغاليين ويحوي كثيرًا من مدن المغرب المختلفة بالإضافة إلى أسبانيا وفرنسا، مطعمًا بملامح من الشام والقاهرة وحتى بغداد.
فرضت على المغرب سياسية استعمارية كباقي جيرانها في القارة الافريقية. عن يمينها الجزائر التي تم احتلالها في 1830، وتونس التي فرضت عليها حماية من فرنسا في 1881. لم يكن الحال مغايرا للمغرب التي فرضت عليها حماية ثلاثية (فرنسية – إسبانية – دولية) بموجب معاهدة فاس في 1912 التي مزقت مدن ومناطق المغرب ليبدأ فصل جديد في حكاية كازا.
التوغل والسيطرة من قبل الاحتلال خاصة في الحياة الثقافية وهوية المدينة كان خطا أحمر بالنسبة للمواطنين في كازا لكن كل شيء تحت وطأة الاحتلال لا يسير وفقا لإرادتك الحرة بالطبع. تم انشاء الكثير من حمامات السباحة حول ميناء المدينة اتيحت فقط لشخصيات من المجتمع الرياضي النخبوي وكانت تدار بواسطة الأجانب، ومع التزايد النسبي لعضويات المواطنين معتنقي الإسلام واليهودية من المغاربة كان على إدارات تلك الأندية التدخل للفصل بين النخبة والعامة. نجد بعد ذلك أن السلطات قد يسرت بل وشجعت على إنشاء الأندية المحلية للحؤول دون اختلاط الأجانب في نواديهم الخاصة جدا بالمغاربة.
ولأننا نحيا في فلك تلك الكرة الأرضية كان من الطبيعى لأى مكان أن تشغل الكرة، تلك المجنونة، حيزًا ليس بالهين من تاريخ المكان وذكريات سكانه السياسية قبل الرياضية. تنساب كرة القدم من بين تفاصيل كازا كسائر مدن كرة القدم.
دونا عن سائر مدن المملكة اليوم، تحتفظ الدار البيضاء لنفسها بالفضل في ظهور لاعبين بقيمة العربي بن مبارك، عزيز بودربالة، صلاح الدين بصير، نورالدين نايبت، نادر لمياجري، وغيرهم.
أقدم نوادي المدينة على الإطلاق هو نادي الأولمبيك البيضاوي الذي تأسس على يد مستوطنين فرنسيين من سكان كازا في عام 1904 مع بعض العمال من مركز انتاج الحليب، من هنا عرف النادي شعبيا بأولمبيك الحليب. استمر النادي لمدة 91 عاما قبل الاندماج مع الرجاء البيضاوي عام 1995 ليتلاشى ذلك الكيان الذي استحوذ على كاس العرش 3 مرات ولقب الدوري في 1994. أما الإنجاز الأهم فيبقى فوز النادي ببطولة الأندية العربية لأبطال الكؤوس في 3 نسخ متتالية (1991 – 1992 – 1993).
في 1916 ظهر نادي الاتحاد المغربي للمرة الأولى الذي كان يضم داخله سبعة ألعاب مختلفة منها كرة القدم بالطبع التي كان سيدها دون منازع خلال فترة الحماية، كان الاتحاد هو النادي الأكثر قوة وغول الكرة المحلية في المغرب بهذا الوقت حيث استطاع أن يفوز بالبطولة المحلية 16 مرة. لم يتوقف الأمر عند السيطرة المحلية، وجه الفريق اهتماماته إلى المنافسات الإفريقية ففاز ببطولة شمال افريقيا 5 مرات، كما خطف كأس شمال افريقيا في مناسبتين. يكفي القول أن جاست فونتين الذي سجل لفرنسا 13 هدفا خلال كأس العالم 1958 كان لاعبا في الاتحاد المغربي، كما هو الحال بالنسبة للجوهرة السوداء العربي بن مبارك الذي لعب لنادي مارسيليا في 1938 ثم في أتليتكو مدريد ليكون بذلك من أوائل المحترفين العرب.
أما راسينج الذي تأسس في 1917 فقد نجح في الفوز بالدوري مرتين خلال فترة الاستعمار (1945 و 1954) ثم مرة ثالثة وأخيرة في 1972 بعد الاستقلال.
هناك أيضا أندية أخرى مثل الاتحاد البيضاوي، مجد المدينة الذي فاز بالكأس وهو في درجات الهواة عام 2000، الصخور السوداء الذي تأسس في 1923، والرشاد البرنوصي وهو اخر نادي تم إنشاؤه في المدينة.
لا تذكر الدار البيضاء الا بذكر جناحيها، كانت كازا ولا زالت تحلق في سماء المتعة بجناحي الوداد والرجاء وتثير بهما الجو مرغمة كل راغبي الجمال وعشق الكرة أن يسلطوا أنظارهم إليها طواعية وحبًا.
اذا بدأنا بالوداد علينا أن نعود قليلًا لأجواء مصر وارتباطها بالمغرب هذا الرباط الوثيق لنحكي القصة الشهيرة، ففي وسط اجتماعات تأسيس نادي الوداد طرحت مشكلة اختيار اسم النادي وبعدما حددوا موعدًا نهائيًا لاجتماع اختيار الاسم حضر محمد ماسيس العضو المؤسس للنادي متأخرًا فعند سؤاله عن سبب تأخره قال أنه كان في السينما يشاهد الفيلم الجديد لأم كلثوم وكان يحمل اسم (وداد). بدون مقدمات طرحوا الاسم وتمت الموافقة عليه بالإجماع ليخلق وداد كازا الذي كان في البداية ناديا للسباحة وكرة الماء.
نظرًا لطبيعة الدار البيضاء كالمدينة الأولى في المغرب، ولأن الوداد هو النادي الأقدم تأسيسَا، فكان بديهيًا أن يكون منارة تاريخية تعبر عن مواقف القطر المغربي بأكمله، ساهم فريق الوداد في مناهضة الاستعمار الفرنسي، وكانت مبارياته تعرف دائما اعتقال بعض المشجعين، بل إن مباريات الفريق أصبحت فرصة للمغاربة ليعبروا عن سخطهم ومطالبتهم برحيل المستعمر. كانت الجماهير تهتف للوداد في كل مدن المملكة سواء منتصرًا أو متعادلًا أو منهزمًا. وقد كانت هذه الجماهير تتعرض للاستفزاز من طرف المستعمر الذي وصل به الحقد إلى حد تطويق الملاعب أثناء مباريات الوداد بالدبابات لتخويف الجمهور. لقد كان أي شخص ينتمي للوداد يعني في نظر المستعمر أنه وطني مقاوم، وكان توقيع أي لاعب مع الوداد يعني اختيار صف الوطنية وعداوة الاستعمار. اكتسب الوداد سمعته بين الطبقة المتوسطة تحديدا عقب إشادة من الملك محمد الخامس بالنادي لمساعدته في الترويج لقضية تقرير المصير من خلال مواقفه.
كل ذلك لا يعني أن الرجاء، وهو المنافس والخصم الأول في البلاد، قد تكون على يد أحد الضباط الفرنسيين أو لجنة إسبانية ما بل على العكس تماما، رفض هذا التكتل واقع الاحتلال من يومه الأول. نتحدث عن أواخر الأربعينات حين شددت السلطة الفرنسية السوط على الرياضة وضيقت الخناق على الأندية فوضعت شرطًا لتأسيس أى نادٍ أن يكون الرئيس فرنسيًا، وكان لابد من إيجاد حل لهذا التعجيز التعسفي.
وبالفعل تم الاجتماع في مقهى (بويا صالح) والاتفاق على أن يتقدم بطلب لتأسيس النادي شخصا يدعى حجّي بن عبادي من أصول جزائرية ويحمل الجنسية الفرنسية، تمت المهمة بنجاح وكما الحال مع الوداد فقد طرحت هنا أيضًا مشكلة الاسم وتم طرح الاختيارات فكأن أحد الأعضاء المؤسسين يردد بعد كل اقتراح عبارة (الرجاء في الله) ليهتف أحدهم : ليكن (الرجاء) فكان الرجاء.
الفريقان يتقاسمان نفس الملعب، مركب محمد الخامس، وعند الحديث عن محمد الخامس فنحن نتحدث عن جحيم مغربي ليس غريبًا على كل فرق أفريقيا، فقط انظر الى شمال الدار البيضاء ترى جماهير الوداد على أهبة الاستعداد لأى حدث يخص الفريق لتراهم يزحفون كالجراد على ملعب محمد الخامس لا ينقطعون عن الهتاف، ثم اشح ناظريك جنوبًا لترى جماهير الرجاء تنطلق نحو معشوقها الأول راجية أول وأخيرًا في صنع المجد...المجد ولا شىء غيره.
بالتأكيد جحيم محمد الخامس ما يزال يحمل في جنباته ذكريات لها سحر خاص للناديين بداية بالألقاب القارية التي بدأها الرجاء عام 1989 حين احتضنت الدار البيضاء النهائي الافريقي بين الرجاء ومولودية وهران لينجح الرجاء في الفوز 1/0 ويخسر في الجزائر بالنتيجة ذاتها ثم يفوز بركلات الترجيح ليعود بالكأس الغالية لأول مرة لأحضان جماهيره مسجلًا لحظات بالتأكيد لا تنسى. على الجانب الاخر، ينجح وداد 1992 بالظفر أيضَا بالغالية الافريقية للمرة الأولى والحيدة في تاريخه حين أجهز على الهلال السوداني وقتها بثنائية نظيفة ويتعادل سلبيًا في السودان لتنام فريميجة "الجهة الشمالية من المدينة" أسعد لياليها على الاطلاق.
أما المواجهة بين الفريقين فهي ذات طبيعة خاصة بين مدن شمال افريقيا. دربي كازا ليس الأهم في المملكة فحسب، لدى المباراة أهمية إقليمية وعالمية أيضا، فبعيدا عما يحدث في الملعب نجد مواجهة أخرى بين الأنصار في مدرجات مركب محمد الخامس، الوجهة المقدسة لعشاق كرة القدم في المدينة. لكن لا تتم الأمور هنا على نحو رومانسي عادة.
تصدح الأصوات في المدرجات قبل المباراة بساعات طويلة من انطلاق المباراة، اللاعبون يتنافسون على أرض الملعب ويحذو الجمهور حذوهم. الحماس الشديد يؤدي في بعض الأحيان إلى حوادث مؤسفة ينتج عنها إصابات وحالات وفاة هنا في كازا خاصة بعد وصول موجة الاولتراس للمدينة عن طريق مجموعة "جرين بويز" المحسوبة على الرجاء.
لم تكن المغرب رائدة تلك الحركة في شمل افريقيا والمنطقة العربية فقد سبقهم جيرانهم في تونس في أواخر التسعينات، الا أن الجميع يشهد للمغاربة اليوم قدرتهم الفائقة على الإبداع بلوحات فنية في المدرجات أروع من أي شيء آخر ولديهم المرونة الكافية للاستعراض أكثر من مرة خلال 90 دقيقة فقط، كما أن طريقة غناء المغاربة مميزة عن جميع المدرجات العربية وفريدة من نوعها حقا ما يضيف للمباريات أكثر من كرة القدم التي تقدم على أرض الملعب.
الدار البيضاء وموضعها فوق الهضاب أتاح لها أن تكون كما الأمواج المتلاحقة، تستمر كرة القدم بطبيعتها المعهودة أمواج فوق أمواج، ونستمر نحن الجماهير نستمتع بكل تلك الأمواج ولا نود مصارعتها اطلاقًا فعاشت كازابلانكا دار المتعة.
..
أعدنا نشرها بمناسبة تواجد الأهلي والزمالك في الدار البيضاء لملاقاة الوداد والرجاء في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال إفريقيا.