صدمات المونديال - ملوك الكرة يهبطون من عالمهم المثالي أمام غاسلي الصحون وسعاة البريد

الجمعة، 04 مايو 2018 - 11:54

كتب : زكي السعيد

أمريكا 1950

منتخبات صغيرة تسافر إلى كأس العالم حالمة بألا تعود لبلادها محمّلة بقدر هائل من الكرات في شباكها؛ إلا أن قدْرا هائلا من العزيمة وبعضا من الشجاعة وقليلا من الحظ قد يكفون لتجنب هزائم متوقعة، وصنع معجزات كروية في المونديال حيث أنظار العالم أجمع مصوبة لملعب اللقاء.

FilGoal.com يقدم سلسلة "صدمات المونديال" لأجل مصاحبة هؤلاء الأبطال المغمورين الذين أعجزوا أقلام المراسلين عند كتابة نتيجة المباراة.. منتخب خارج نطاق الترشيحات تماما يصنع مفاجأة مدوية أمام منتخب متمرس.. والبداية مع معجزة العام 1950 وانتصار الولايات المتحدة الأمريكية على منتخب إنجلترا في أرض البرازيل.

شهدت نسخة كأس العالم 1950 حدثا هو الأول من نوعه: مشاركة إنجلترا في كأس العالم.

مؤسسو اللعبة غابوا عن النسخ الثلاث الأولى لخلافهم مع الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، ولعل أمر المشاركة في بطولة تحدد "المنتخب الأقوى" في العالم لم يكن يشغلهم كثيرا، إذ امتلكوا يقينا راسخا أنهم ملوك الكرة، وبطولة مجمعة مدتها أسبوعين أو ثلاثة لن تساهم كثيرا في تغيير تلك الفكرة.

المنتخب الإنجليزي الذي جلس مراقبا بقية المنتخبات من برجه العاجي، قرر السفر إلى البرازيل وإحضار كأس جول ريميه.. إحضارها وليس المنافسة عليها.

وللحق فإن تشكيلة المنتخب الإنجليزي بتلك الفترة استحقت تلك السمعة الإعجازية التي تقلدوها.. البعض يعتبرها أكثر تشكيلات إنجلترا ثراء على الإطلاق.

قائدهم بيلي رايت الملقب بـ"الجنرال" يعد أحد أشهر الأسماء في تاريخ الكرة الإنجليزية، وسيحل ثانيا في صراع الكرة الذهبية بعد سنوات، كان أسطورة لفريق ولفرهامبتون بتلك الحقبة.

شاهد أيضا.. (في ظل أبطال المونديال – الحمام الزاجل الذي خلد تاريخ البرازيل في كأس العالم)

بيلي رايت

ومن فريق الذئاب تواجد أيضا الحارس القِط بيرت ويليامز والمهاجم جيمي مولن، فيما تواجد على الجبهة اليمنى من الدفاع ألف رامسي، وهو مدرب إنجلترا الفائز لاحقا بكأس العالم 1966.

ألف رامسي

أما الأشقر ويلف مانيون الفتى الذهبي لفريق ميدلسبروه (يُعتبر أفضل لاعب في تاريخ البورو بنظر الكثيرين)، فقد قاد خط الهجوم..

ويلف مانيون

وأخيرا، ثنائي بلاكبول: ستانلي ماتيوس وستانلي مورتنسن.. الأول يظل حتى اللحظة أحد أفضل المراوغين على الإطلاق، والثاني هو المسجل الوحيد لثلاثة أهداف في نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي على ملعب ويمبلي.

ثنائية ستانلي ماتيوس وستانلي مورتنسن

ويقودهم تدريبيا السير والتر وينتربوتوم.

والتر وينتربوتوم

الخمس سنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهدت خوض إنجلترا لـ30 مباراة، انتصرت فيها بـ23 لقاء، تعادلت 3، وخسرت 4 فقط.

لاعبو المنتخب الإنجليزي يتسلمون بزاتهم الرسمية قبل السفر إلى البرازيل

من نتائجهم العريضة في تلك الفترة فوزهم على البرتغال بعشرة أهداف مقابل لا شيء، أما المباراة التي جعلت الرعب يهروّل أمامهم هربا، فهي يوم أن انتصروا على إيطاليا برباعية نظيفة في قلب تورينو عام 1948.

المنتخب الإيطالي تكوّن في الأساس من لاعبي فريق "جراندي" تورينو والذي كان فريقا غير قابل للهزيمة. إلا أن إيطاليا فقدت منتخبها كاملا في كارثة سوبرجا الجوية عام 1949 والتي راح ضحيتها فريق تورينو بأكمله، مما قلّص حظوظهم كثيرا قبل منافسات كأس العالم 1950، وفتح الطريق على مصرعيه للإنجليز صوب تجريد إيطاليا من لقبيها المتتاليين بعامي 1934 و1938، أخر نسخ كأس العالم قبل قيام الحرب.

في المقابل، لم تمتلك الولايات المتحدة منتخبا نظاميا، بل مجموعة هواة يمارسون كرة القدم في نهاية الأسبوع ويمتلكون وظائف أخرى ثابتة، ووقوعهم في مجموعة تضم إنجلترا، إسبانيا، تشيلي بكأس العالم 1950 لم ينذر بالخير.

إذ قبل منافسات المونديال، خسرت الولايات المتحدة أخر 6 مباريات خاضتها، سجلت خلالها هدفا واحدا، وتلقت 42 هدفا، وتبقى هزيمتهم بتسعة أهداف نظيفة أمام إيطاليا في دورة الألعاب الأوليمبية 1948 شاهدة على مستواهم الهزيل.

مدربهم الاسكتلندي بيل جيفري تم تعيينه قبل أسبوعين فقط من البطولة، وصرح للصحافة: "حظوظنا منعدمة.. نحن حملان تستعد للذبح".

وكان على لاعبي المنتخب الأمريكي القلق بشأن قمصانهم قبل أي شيء آخر، إذ لم يتسلموا قمصان جديدة لأجل مباريات المونديال إلا في اللحظة الأخيرة.

وبنظرة خاطفة على عناصر المنتخب الأمريكي، سيتجلى لنا أنه لم يكن مؤهلا للمنافسة في كأس العالم أبدا.

شاهد أيضا.. (فضائح تحكيمية في المونديال – انتقام بلاتر و6 كيلوجرامات من الهيروين)

المنتخب الذي تم جمعه على عجالة في الأيام الأخيرة قبل السفر للبرازيل لأن الاتحاد الأمريكي لكرة القدم لم يكن متأكدا جدا من المشاركة، ضم والتر بيهر مدرس المرحلة الثانوية.. قائد المنتخب الأمريكي اضطر للتخلي عن أجر أخر بضعة أسابيع في العام الدراسي نظير الحصول على إجازة تمكنه من السفر مع المنتخب.

والتر بيهر

أما حارس المرمى، فكان فرانك بورجي، فهو واحد من مجموعة لاعبين ذو أصول إيطالية في تلك التشكيلة الأمريكية. بورجي كان سائقا لسيارة نقل الموتى الخاصة بعمه الحانوتي، لاعب بيسبول سابق لم يمتلك أي قدرات على ركل الكرة بقدميه، إلا أنه امتلك يدين كبيرتين، فما كان إلا أن أوقفوه في المرمى لالتقاط الكرات.

فرانك بورجي

زميلهم بن ماكلوين اعتذر عن المشاركة لأن رب عمله رفض إعطائه إجازة، إلا أن هاري كيو ساعي البريد سيلعب.

الإعلام الأمريكي لم يكن على دراية بإقامة تلك الكأس العالمية من الأساس على الأرجح، فتغافلت كل الصحف الكبرى عن إرسال مراسليها، ولم يسافر مع البعثة سوى دنت ماكسكيمنج الذي يعمل في صحيفة سانت لويس بوست ديسباتش، وصحيفته رفضت التكفل بسفره، فاضطر للسفر على نفقته الخاصة، إيمانا منه بقدرات لاعبي المنتخب الأمريكي الذين كان أغلبهم من أبناء سانت لويس.

قبل البطولة بعشرة أيام، أرسل الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم منتخبا مكونا من اللاعبين الذين لن يشاركوا في كأس العالم للقيام بجولة ترويجية في كندا والولايات المتحدة، ورافقهم الأسطورة ستانلي ماتيوس، فكانت فرصة سانحة لأن يلتقي المنتخبان في نيويورك، وانتهت المباراة بانتصار بدلاء إنجلترا 1-0 دون مشاركة ماتيوس.

المدرب جيفري فطن إلى ضعف تشكيلته، فلجأ رفقة الاتحاد الأمريكي إلى حل بديل: ضم لاعبين مقيمين في الولايات المتحدة لا يحملون جنسية البلاد.

الفيفا وافق على تلك الخطوة، إذ شدد الاتحاد الأمريكي على أن هؤلاء اللاعبين ينون الحصول على الجنسية الأمريكية في أقرب وقت.

وهم: البلجيكي جو ماكا الذي مارس كرة القدم في دوري القسم الثالث ببلاده قبل الحرب، قبل أن يقاتل رفقة الجيش البلجيكي وينال ميدالية نظير مقاومته الباسلة لجيوش المحور.

بالإضافة إلى الاسكتلندي إد ماكليفني والذي لعب في الدرجات الدنيا بإنجلترا واضطر للسفر إلى الولايات المتحدة عام 1949 رفقة شقيقته، وسيضمه السير مات باسبي إلى مانشستر يونايتد بعد المونديال.

أما الثالث، فهو جو جايتجنز.

شاهد أيضا.. (ضحايا المونديال - مدرب اليابان ينقلب على "الملك كازو")

المنتخب الأمريكي عانى من عقم هجومي رهيب يتضح في أرقامه، افتقدت البلاد لمهاجم قناص، وفي فريق بروكاتان ظهر لاعب من دولة هايتي يُدعى جايتجنز، خاض مباراتين دولتين مع هايتي منذ سنوات قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة لدراسة المحاسبة في جامعة كولومبيا بمنحة مقدمة من بلاده.

جايتجنز الذي أذهل لاعبي المنتخب الأمريكي بضرباته الرأسية وحركاته الأكروباتية، تقاضى 25 دولار نظير المباراة مع فريقه الذي سجل له 18 هدفا في 15 مباراة بذلك الموسم قبل السفر مع أمريكا إلى كأس العالم، واضطر للعمل كغاسل صحون في مطعم يتبع مالك ناديه حتى يتكفل بمصاريف معيشته مغتربا.

في يوم 25 يونيو 1950، وهو اليوم الذي خاضت فيه الولايات المتحدة مباراتها الأولى في دور المجموعات أمام إسبانيا، تم إبلاغ لاعبي المنتخب الأمريكي بأن بلادهم دخلت الحرب الكورية بشكل رسمي.. خسروا 3-1 أمام إسبانيا، وسجل هدفهم الوحيد جينو بارياني ذو الأصول الإيطالية.

في اليوم نفسه افتتحت إنجلترا مبارياتها في البطولة بانتصار سلس على تشيلي بهدفين نظيفين دون مشاركة ماتيوس الذي كان مقررا وصوله للمشاركة في المباراة الثانية أمام الولايات المتحدة بعد 4 أيام.

في 29 يونيو، دخل لاعبو المنتخب الأمريكي إلى أرض ملعب الاستقلال في بيلوهوريزونتي بسيقان مرتعشة لمواجهة ملوك كرة القدم.

ترشيحات فوز إنجلترا بكأس العالم قُدّرت بـ1 إلى 3، فيما كانت ترشيحات فوز الولايات المتحدة بالبطولة تُقدَر بـ1 إلى 500، وحتى هذا الرقم كان أكثر مما يستحق المنتخب الأمريكي.

مدرب المنتخب الإنجليزي اتخذ قراره بعدم إشراك ستانلي ماتيوس وتوفيره للمباريات الأصعب التي ستأتي لاحقا، مع ذلك، ظلت تشكيلة إنجلترا ثرية أكثر مما يحتمل اللاعب الأمريكي المسكين.

كتبت "ديلي إكسبريس" البريطانية قبل اللقاء: "سيكون من العدل أن تبدأ الولايات المتحدة المباراة بثلاثة أهداف في رصيدها".

سلم بيهر قائد المنتخب الأمريكي شارة القيادة لماكليفني ذو الأصول الاسكتلندية لأنه سيواجه أنداده الإنجليز.

ماكليفني وبيلي رايت قبل المباراة

شاهد أيضا.. (حكايات المونديال - رجل أنقذ كأس العالم من دمار الحرب العالمية الثانية)

المنتخب الإنجليزي احتاج لأقل من 90 ثانية حتى يهدد المرمى الأمريكي، وبدا أن الحارس بورجي سيمر بيوم عمل مزدحم أكثر من أي يوم آخر في قيادته لسيارات نقل الموتى.

يقول فرانك بورجي: "دخلنا المباراة آملين أن نتلقى هزيمة صغيرة. إن منعناهم من تسجيل أكثر من 5 أو 6 أهداف، لكان ذلك نصرا معنويا".

بمرور 12 دقيقة، كانت إنجلترا قد سددت 6 كرات على المرمى الأمريكي، منها 2 ارتدتا من خشبات المرمى.. إلا أنهم فشلوا في التسجيل حتى اللحظة.

الخرجة الهجومية الأولى لأمريكا جاءت بتسديدة خجولة على مرمى الحارس ويليامز في الدقيقة 25، هذا التخطي لخط الوسط من قبل اللاعبين الأمريكيين، أثار غضب الإنجليز، فجاء ردهم عنيفا بثلاث هجمات متتالية ما بين الدقيقتين 30 و32، إلا أن بورجي ورعونة مهاجمي الأسود الثلاثة أبقوا النتيجة سلبية.

في الدقيقة 37، وقعت إحدى معجزات كأس العالم: سجلت الولايات المتحدة في مرمى إنجلترا!

بيهر تسلم الكرة في الجبهة اليمنى، على بعد حوالي 25 ياردة من المرمى الإنجليزي، ولأن قدرة المنتخب الأمريكي على الاحتفاظ بالكرة كانت ضعيفة جدا، فقد قرر بيهر التخلص من الكرة سريعا عبر تسديدها من زاوية جانبية.

بدا أن التسديدة السهلة في طريقها مباشرة لأيدي الحارس ويليامز الذي خرج فعلا من مرماه لالتقاطها، إلا أن مهاجم هايتي جو جايتجنز ظهر من العدم، وتفاجأ كل من في الملعب باللاعب في وضع أفقي طائر ضاربا الكرة برأسه في اللحظة الأخيرة قبل أن تصل ليد الحارس ويليامز، ومسجلا هدف التقدم لبلاده – أو لنقل بلد إقامته - أمام ذهول الجمهور البرازيلي في المدرجات الذي حضر في الأساس لمشاهدة لاعبي المنتخب الإنجليزي.

جايتجنز وويليامز يتابعان الكرة بعد ملامستها لشباك المرمى الإنجليزي

يقول هاري كيو لاعب المنتخب الأمريكي عن الهدف:

"تقدم والتر بيهر، وقام بتسديد الكرة ليطير عليها جو جايتجنز. قلت في نفسي: "تبا، لن تلحق بها"، إلا أن جو تمكن بطريقة ما من لمس الكرة برأسه، لم يدرك أين اتجهت الكرة حتى استقرت الكرة خلف الحارس في المرمى".

أما ألف رامسي، والذي كان أقرب اللاعبين الإنجليزي لجايتجنز عند تسجيل هدفه الغريب، فلديه نظرية مختلفة تماما عن الهدف: "لقد قفز حتى يتفادى الكرة".

رامسي يتابع الكرة أثناء مرورها من الحارس ويليامز

بعض لقطات الفيديو متوافرة من تلك المباراة، والهدف ليس من ضمنها، إذ سجلت كاميرا خلفية للمرمى الإنجليزي تسديدة بيهر في طريقها إلى رأس جايتجنز، إلا أن سرعة الكرة لم تمكّن المصوّر من زحزحة كاميرته وتسليطها على جايتجنز، لذا لم تظهر لحظة طيرانه في الكادر.. وبالتالي لن نتمكن أبدا من الجزم بوصف دقيق للهدف.

شاهد أيضا.. (شعوب المونديال - حين اختلطت صرخات الفرح والألم معا في عهد خونتا الأرجنتين)

ومع تضارب النظريات الأمريكية الإنجليزية حول ما إذا كان الهدف نابعا من مهارة فائقة أو قدرا عظيما من الحظ، فهذا لا يغير من حقيقة أن الشوط الأول انتهى على تقدم الولايات المتحدة بهدف نظيف على الإنجليز.

بين الشوطين، بدأ البرازيليون في التوافد بغزارة على أرض الملعب، سمعوا في المذياع أن إنجلترا خاسرة أمام الولايات المتحدة بهدف نظيف، وحضروا حتى يتأكدوا من حقيقة هذا الادعاء بأعينهم.

لم يتوقع الأمريكيون في غرفة خلع الملابس أن يصمدوا أمام الاجتياح الإنجليزي الذي سيصيبهم في الشوط الثاني، ومدرب إنجلترا بدأ في التباكي سرا لعدم إشراك ماتيوس منذ البداية. الاستبدالات لم تكن موجودة في كرة القدم حينها، لذا توجب على ماتيوس أن يلازم مقعد البدلاء حتى نهاية المواجهة.

ومع مرور دقائق الحصة الثانية، بدأ البرازيليون في مساندة لاعبي الولايات المتحدة بحماس منقطع النظير، تعاطفوا مع المنتخب الضعيف الذي في طريقه لصنع المعجزة، والأهم أنهم أرادوا أن تودع إنجلترا البطولة مبكرا حتى لا تواجه البرازيل في الأدوار التالية.

الإنجليزي توم فيني محاطا بوالتر بيهر وتشارلي كولومبو

بورجي واصل تصدياته الإعجازية، وخشبات مرماه وقفت حاجزا أمام تسديدات الإنجليز العنيفة.. يُقال أن بيرت ويليامز حارس إنجلترا لم يلمس الكرة طوال المباراة سوى 6 مرات!

فرانك بورجي وهاري كيو

في الدقيقة 82، انطلق ستانلي مورتنسن مهاجم المنتخب الإنجليزي في مساحة خالية صوب المرمى الأمريكي، واعتقد أبناء العم سام أن تلك اللحظة ستكون نهاية صمودهم الطويل، قبل أن يتدخل المدافع تشارلي كولومبو ذو الأصول الإيطالية.

كولومبو قفز من خلف مورتنسن وحوّط ساقي مورتنسن بذراعيه مانعا إياه من التقدم أكثر من ذلك، بدا أن كولومبو قد مارس كرة القدم الأمريكية في تلك اللعبة وليس كرة القدم التي نعرفها.

مورتنسن سقط وطالب بركلة جزاء، إلا أن الحكم الإيطالي جينيروسو داتيلو تعاطف - ربما - مع كولومبو ومنح ركلة حرة على حدود منطقة جزاء المنتخب الأمريكي مباشرة.

يقول كولومبو أن الحكم الإيطالي هرول إليه وأخبره بالإيطالية: "بونو بونو".

هل أشاد الحكم لتوه بتدخل مواطنه كولومبو في حق مورتنسن؟!

بيهر تحدث لاحقا عن زميله كولومبو: "تشارلي كان معروفا بأنه مدافع مميز وعنيف. إن راوغته، كان ليعتبرها إهانة شخصية. لن أصف تشارلي باللاعب القذر، لكنه خالف القوانين بعض الشيء في تدخلاته. كان لاعبا ترغبه في فريقك، وتتمنى عدم مواجهته".

"لن ترى عرقلة بتلك الجودة في أي مباراة أخرى".. يعقَب هاري كيو ضاحكا.

وقف ألف رامسي لتنفيذ المخالفة، سددها وقام زميله جيمي مولون بتغيير اتجاهها برأسه مباشرة صوب شباك الحارس بورجي الذي استجمع كل قدراته البشرية المكنونة وصنع تصديا إعجازيا أخيرا.

التف الإنجليز حول الحكم الإيطالي مطالبين باحتسباها هدفا بحجة تخطي الكرة خط المرمى، إلا أن بورجي يعتقد بأن الصواب قد جانبهم في تقدير اللعبة:

"لم أكن واقفا على خط المرمى، بل أمامه. أبعدت الكرة قبل أن تعبر الخط. إن كنت واقفا على الخط لكانت هدفا".

بعد هذا التصدي، أدرك الإنجليز أنهم لن يسجلوا لو استمرت المباراة 100 عاما، فتوقفوا يائسين عن مهاجمة المرمى الأمريكي، لتنتهي المباراة بانتصار الولايات المتحدة الأمريكية بهدف نظيف في واحدة من أبرز مفاجآت كأس العالم على مر العصور.

شاهد أيضا.. (شعوب المونديال - البرازيل 1950.. حلم التحول إلى دولة عظيمة انتهى على كابوس الماراكانا)

الجمهور البرازيلي لم يصدق، فاقتحم أرض الملعب حاملين جايتجنز بطل المباراة على الأعناق.

تقرير الصحفي دنت ماكسكيمينج عن المباراة كان الوحيد بين كل الجرائد الأمريكية الأخرى، وحاول إيصال قيمة الإنجاز للأمريكيين بقوله: "الأمر كما لو أن جامعة أكسفورد أرسلت فريق بيسبول إلى هنا، وتغلبوا على اليانكيز".

وقال أحد مراسلي وكالة رويترز: "إنجلترا خسرت بهدف نظيف أمام منتخب لم أكن على دراية بأنه يمارس كرة القدم".

يقول بيرت ويليامز حارس إنجلترا: "امتلكنا حفنة من أفضل اللاعبين بالعالم، استحوذنا على الكرة بنسبة 90%. ولكن لم نمتلك خبرة اللعب أمام فريق تكدس لاعبوه أمام خط المرمى. لم يكن باستطاعتنا رؤية المرمى حتى".

في إنجلترا، وعندما وصلت النتيجة للصحف الإنجليزية بعد اللقاء، اعتقد المحررون أنها وصلت بشكل خاطئ، وأن الرقم الموجود في خانة منتخبهم ينقصه الرقم 1، لتكون النتيجة انتصار إنجلترا 10-1 على الولايات المتحدة.. لصارت نتيجة طبيعية إن حدثت..

واعترف بيهر قائد المنتخب الأمريكي أن الإنجليز تفوقوا عليهم في تلك المباراة:

"المباراة المثالية تتطلب أن تفوز وتلعب بشكل جيد. فزنا ولكننا لم نجاري إنجلترا بكل تأكيد. كانت واحدة من المباريات التي لم يفز بها الفريق الأفضل، وأنا فخور بذلك. امتلكنا فريقا مميزا، ولكن إن واجهنا إنجلترا 10 مرات، فسينتصرون في 9 منها".

أما السير توم فيني أحد أفراد إنجلترا في تلك المباراة، فقال الآتي.

"لم تسر الأمور على ما يرام. إنها واحدة من تلك المباريات التي كان مقدرا لنا خسارتها. أصبنا العارضة والقائمين عدة مرات في الشوط الأول ومرتين في الشوط الثاني. سجلوا هدفا بكثير من الحظ. أعتقد أننا أدركنا بأنه لن يكون يومنا ولذلك توقفنا عن اللعب. لو واجهناهم 100 مرة، لهزمانهم في 99 بكل سهولة".

هاري كيو أكد: "في أكثر أحلامنا جموحا، لم نتخيل إمكانية حدوث هذا".

في كأس العالم 2014، توجب على إنجلترا العودة لمدينة بيلوهوريزونتي ومواجهة منتخب آخر من منطقة الكونكاكاف: كوستاريكا.. مجددا، إنجلترا فشلت في التسجيل، وانتهت المباراة بالتعادل السلبي.

وفي الجولة الثالثة من منافسات العام 1950، خسرت الولايات المتحدة أمام تشيلي بنتيجة 5-2 في مباراة مثيرة أظهروا خلالها قدرا عاليا من المنافسة.

أما الإنجليز، ورغم مشاركة ستانلي ماتيوس أمام إسبانيا هذه المرة، إلا أن الباسكي تيلمو زارا صعقهم وصعد بإسبانيا للدور التالي على حساب منتخب إنجلترا الذي عاد إلى لندن محملا بهزيمتين كارثيتين.

بعد هذا الخروج المبكر المهين، بدأت الهالة الأسطورية المحيطة بالمنتخب الإنجليزي في الزوال، خصوصا عندما استضافوا المجر على ملعب ويمبلي عام 1953 وخسروا 6-3، قبل أن يخسروا أمامهم في العام التالي 7-1.

أما في الولايات المتحدة، فاجتذب خبر الانتصار على إنجلترا قدرا ضئيلا جدا من الاهتمام، إذ لم تحظ اللعبة بأي شعبية في البلاد بتلك الفترة، واحتاج الأمريكيون إلى سنوات طويلة ليدركوا قيمة هذا الإنجاز بوقت لاحق.

الولايات المتحدة انتظرت 40 سنة إضافية حتى تظهر في كأس العالم من جديد، في مرآة واضحة لمستوى كرة القدم هناك خلال تلك الحقبة.

في العام 1996، تناول كتاب "مباراة العمر" من تأليف جيوفري دوجلاس كواليس تلك المباراة بكثير من التدقيق، وفي العام 2005، صُنع فيلما يحمل نفس الاسم استنادا على الكتاب، من بطولة جيرارد باتلر في دور فرانك بورجي، وويز بينتلي في دور والتر بيهر.

أما جو جايتجنز الذي سجل هدف المعجزة، فعاد لبلاده هايتي بوقت لاحق.. كان منحدرا من عائلة سياسية شهيرة في البلاد، وعندما نصّب الديكتاتور فرانسوا دوفالييه نفسه رئيسا أبديا لجمهورية هايتي، فرت عائلة جايتجنز المعارِضة من البلاد، إلا أن جو الذي لم يهتم كثيرا بالسياسة، أمن على نفسه وقرر البقاء في هايتي معتقدا بتغافل أعين دوفالييه عنه..

في الصباح التالي، اعتقلت الشرطة السرية جايتجنز من مكان عمله، واقتادوه صوب سجن "فورت ديمانش" المشهور بعديد الانتهاكات لحقوق الإنسان.

ويُعتقَد أن جايتجنز قد قُتل في وقتٍ ما خلال الشهر التالي لاعتقاله.. لم يتم العثور على جثته أبدا.

بعد 60 عاما من المباراة الكارثية على إنجلترا، أوقعت القرعة المنتخبين مجددا في المجموعة الثالثة على أرض جنوب إفريقيا.

وبيرت ويليامز حارس إنجلترا تلقى عديد المكالمات الهاتفية لسؤاله عن مواجهة الفريقين السابقة في كأس العالم قبل 6 عقود.

"إن واجهناهم 20 مرة، لانتصرنا في 19 منهم، إلى تلك الدرجة كانت المباراة من جانب واحد. ولكن لا يمكنك أن تقنع أي شخص بذلك، فكل ما يهمهم هو أننا خسرنا، وبعد 60 عاما مازلت أحاول تناسي تلك النتيجة. يقدمك الناس بصفتك الرجل النبيل الذي لعب لولفرهامبتون ومنتخب إنجلترا، ومن ثم يسألونك مباشرة: "هل لعبت أمام الولايات المتحدة؟".. اعتقدت لوهلة أنني سأتجاوز تلك المباراة أخيرا، ولكن أحداثها عادت للظهور مجددا منذ أن أوقعتنا القرعة في مواجهة الولايات المتحدة بكأس العالم القادمة. لذا، قضينا 60 عاما في محاولة نسيان تلك المباراة، وقد يتطلب الأمر 60 عاما أخرى الآن".

في 12 يونيو 2010، قبل 17 يوما على الذكرى الستين لمعجزة بيلوهوريزونتي، فشلت إنجلترا مجددا في الفوز على الولايات المتحدة.. في أقصى جنوب الأرض هذه المرة.

المنتخب الأمريكي الذي واجه إنجلترا.. من اليمين وقوفا: بيل جيفري، والتر بيهر، هاري كيو، فرانك بورجي، تشارلي كولومبو، جو ماك، جاك لايونز. من اليمين جلوسا: إد سوزا، جون سوزا، جو جايتجنز، جينو بارياني، إد ماكيلفيني، فرانك والاس

التعليقات