كتب : نصري عصمت | الأحد، 22 فبراير 2015 - 17:46

لماذا يموت المصريون في ملاعب كرة القدم؟

"لماذا يموت المصريون في ملاعب كرة القدم".. عنوان تقرير صحفي قررت كتابته ونشره بالإنجليزية عبر المؤسسة الإعلامية التي أعمل بها حاليا عقب وقوع مذبحة ملعب الدفاع الجوي، وذلك للرد على استفسارات زملائي من الصحفيين الأجانب والجمهور غير المصري والذي يعجز عن فهم سبب وفاة المشجعين في الملاعب بعد كوارث بورسعيد والدفاع الجوي.

الغريب أن محاولة شرح الأمر بموضوعية وبهدف التبسيط لمتلقي غير مصري جعلتني اكتشف أن أسباب الكوارث والأزمات التي تمر بها مصر عموما قد تبدو بديهية للغاية، لكننا لا نستطيع رؤيتها بوضوح لانشغالنا اليومي بتبادل الاتهامات فقط دون أي شيء آخر.

على سبيل المثال .. جاء ملخص ومبرر التقارير الإعلامية والشرطية لكارثة لقاء الزمالك وإنبي مركزا على فكرة واحدة فقط هي "مشجعون لقوا مصرعهم خلال محاولة دخول ملعب كرة قدم دون تذاكر"، وهو سبب تبناه بعض المصريين خصوصا ممن لم يدخلوا ملعبا للكرة في حياتهم.

السبب يبدو منطقيا وبسيطا للغاية .. نحن أمام مجموعة مشاغبين دفعت حياتها ثمنا لمحاولة الخروج عن "نظام الدخول" إلى ملعب كرة، وبالتالي فلا داعي لتأنيب ضمائرنا لأن المخطيء هنا نال جزاءه .. ربما يكون الموت عقوبة قاسية ولكن لأ أحد يحب المشاغبين على أي حال.

هذه هي الصورة التي يتمنى الكثيرون أن تستقر في الأذهان .. كثيرون مثل رئيس نادي الزمالك .. أو قوة الشرطة المسؤولة عن التأمين.. أو مدحت شلبي.. أو حتى خالك الذي يعشق تأييد كل قرارات الدولة.

ولكن السؤال المهم هنا "هل الحصول على تذكرة مبارة في جمهورية مصر العربية يعني دخولك الملعب معززا مكرما؟" .. الإجابة هي "لا وألف لا".

في مصر ومنذ الثمانينات دخول ملعب كرة القدم هو مغامرة غير مأمونة العواقب ليس بسبب "سوء تنظيم المباريات" بل لأنه لا يوجد "تنظيم من الأساس".

في كل بلاد العالم شراءك تذكرة بمقابل مادي هو بمثابة عقد بين طرفين يتضمن حقك في دخول قاعة السينما أو معرض أوعربة المترو دون موعد محدد، ولو كان هناك موعد فيجب تحديده بدقة.

أما في كرة القدم المصرية فشراءك التذكرة هو بمثابة شراء "احتمال" دخولك الملعب إذا سمحت الحالة الأمنية بذلك، وهذا حسب مدى امتلاء المدرجات برغم أن التذاكر المطبوعة تقل كثيرا عن سعة الملعب .. وببساطة لو أرادت السلطات الأمنية إغلاق الملعب ومنع الدخول قبل المباراة في أي وقت ولو حتى قبل المباراة بثلاث ساعات فهذه مشكلة حامل التذكرة.

ولك أن تتخيل كيف يكون الوضع كارثيا في اللقاءات الجماهيرية والتي تحضر فيها الجماهير منذ بداية يوم المباراة لمجرد حجز مقعد في الملعب مما يؤدي لإهدار وقت المشجع ليوم كامل.

في ملاعب الكرة في البلدان المتحضرة تذكرة المباراة تحمل رقما مميزا يمثل المقعد الذي يجلس فيه صاحبها تماما مثل مقاعد الرحلات الجوية، ولهذا السبب يختلف سعر التذكرة تماما من مدرج لآخر وحسب الموقع في الملعب وزاوية الرؤية، وهذا لا يحدث فقط في دولة مثل إنجلترا:

gun__1362677174_Emirates-Stadium-Seating-Plan-

في ماليزيا :

657632_355562_seating

وفي جنوب إفريقيا:

366f3aea-6b8f-4150-9bac-68d408e4e890

أما في مصر فحتى لو اشتريت تذكرة في المقصورة الرئيسية فمقعدك غير مضمون .. كما أن الدخول ليس مقصورا فقط على من اشترى تذكرة، فهناك دعوات صادرة عن النادي والوزارة والاتحاد وهناك ابن عمة الضابط المكلف بتأمين اللقاء الذي قد يسمح بدخولك في أي وقت.

في ملاعب العالم كله بما فيها الملاعب المصرية تم تصميم الاستادات معماريا بحيث تمكن دخولها من خلال بوابات عملاقة ومتعددة للدخول والخروج، نظرا لأنه مكان تم إنشائه في الأساس لاستضافة عشرات الآلاف من البشر في وقت واحد.

ولكن في مصر هناك عقليات أمنية وتنظيمية فذة ترفض توظيف كل مداخل ومخارج الملعب وتفضل محاصرة المشجعين في نقاط تشبه عنق الزجاجة ليجدوا أنفسهم مضطرين للدخول بصورة فردية عبر بوابة ضيقة في سور معدني أو خرساني .. وحديثا تطور الأمر فتحول إلى أقفاص معدنية كما رأينا صور مذبحة الدفاع الجوي .. هذا بخلاف الممرات الضيقة المؤدية للملاعب والتي يتم دفع الجمهور فيها لتسهيل عملية التدافع لأقصى حد.

كله من النصابين

ببساطة منظم المبارة والقوة الأمنية المصاحبة له تسير وفقا لمبدأ "نحن لا نجيد تنظيم المباريات، ولذلك بعض النصابين ينجحون في الدخول بدون تذاكر، ولأن هناك بعض النصابين مندسين في صفوف الجماهير، فالأسهل هو اعتبار الجمهور كله من النصابين الذين يستحقون التأديب".

هذا بخلاف المتاعب الإجرائية المعتادة .. فمواعيد المباريات ليست في نهاية الأسبوع كأيام السبت أو الأحد في أوروبا أو أيام الخميس والجمعة مثل بلاد الخليج، كما لا يوجد وسيلة منطقية أو رسمية لضمان شراء التذكرة من الانترنت مثلا (لا تنسى إننا في عام 2015)، ولا مكان ثابت لبيعها .. ولا داعي للخوض في مآساة محاولة دخول دورة مياه في الملعب لأنه خطأك أيضا الذي تتحمل مسئوليته.

مع مرور السنوات أدت كل العوامل السابقة إلى تحويل حضور المباريات الرياضية من نشاط ترفيهي واجتماعي إلى حدث منفر وعدواني، وحدثت مقاطعة كاملة للملاعب من جانب الأسر والسيدات وحتى الرجال من مراحل سنية متوسطة وكبيرة، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض أسعار التذاكر بصورة كبيرة بواسطة الأندية واتحاد الكرة.

تبلغ سعر التذكرة الموحدة في مصر ما يقرب من 10 جنيهات وهي أقل مما يدفعه المشجع لو شاهد اللقاء على المقهى.

المشجع المصري المثالي

الآن تخيل من هو المشجع المثالي القادر على حضور لقاء رياضي في هذه الظروف .. بطلنا سعيد الحظ هنا لابد أن يحب فريقه بجنون وفي الوقت ذاته يملك وقت فراغ كبير ولديه طاقة للتشجيع واستعداد لتحمل مشقة وعدوانية مشوار الحصول على تذكرة والدخول والخروج ولا يمانع التعرض للتفتيش بطريقة مهينة أحيانا.

كل هذه المواصفات تنطبق على فئة واحدة تقريبا هي الذكور من عمر 12 حتى 30 سنة، طلبة مدارس وجامعات وحديثو التخرج.

هذه الفئة لا يعيبها على الإطلاق أن لديها طاقة ووقت فراغ وأنها تعشق الكرة وتتحمل المشقة بسببها، ولكن سوء التنظيم أدى إلى تحويل هذه الفئة إلى المجموعة الوحيدة القادرة على الذهاب.

ومع ظهور الانترنت بدأت مجموعات كبيرة من الشباب تنظم نفسها وتكونت جماعات الألتراس التي وفرت لأعضائها فرصة ممتازة للانتماء لكيان منظم .. وظهرت قدراتهم على الإبداع عن طريق الدخلات المبهرة .. وأيضا بدأت مشاكلهم مع الشرطة المسؤولة عن التأمين تطفو على السطح بسبب عمليات التفتيش الذاتية البدائية والتنظيم العشوائي .. فصار هناك عداء بين الطرفين دون أدنى تدخل من الدولة.

وعندما نظمت مصر بطولة أفريقيا عام 2006 تعجب الجميع من تغير ديموغرافية –السن والنوع ومستوى الدخل والتعليم- جمهور المباريات واكتفى الإعلام بتسميته بـ"الجمهور الجميل"، ولم يجهد مسؤول رياضي أو أمني مصري نفسه لمحاولة دراسة من أين جاء هؤلاء الناس؟

ببساطة ارتفاع سعر تذاكر المباريات وتحسن مستوى التنظيم بما يتناسب مع الاشتراطات الدولية بالإضافة لحافز قدرة المنتخب على الفوز باللقب أدى فورا إلى تغيير هوية من في المدرجات.

ولا يعني هذا أن رفع أسعار التذاكر وحرمان غير القادرين ماديا من الحضور هو الحل ولكنه ببساطة مجرد أداة من بين أدوات عدة في يد صانع القرار لتغيير هوية المدرج والحافز من الحضور، من بين هذه الأدوات: تطوير طريقة الدخول والخروج من الملعب، وتحديد مقاعد مرقمة، وتقسيم مدرجات الملعب لفئات عديدة، وتنظيم رحلات جماعية للحضور، وبيع تذاكر للأسر والفئات المطلوب تشجيعها بأسعار مميزة، وتركيب كاميرات في كل مداخل ومخارج الملعب لتصوير المخالفات من جانب المشجعين أو الشرطة أو الإداريين على حد سواء.

وللأسف الشديد رغم ان غالبية دول العالم المتحضر قطعت شوطا كبيرا في هذا المجال لا يوجد أدنى بصيص أمل في الحالة المصرية.

لأن استخدام الأدوات التي ذكرتها لن يحدث من تلقاء نفسه، ولكنه يرجع إلى إرادة من جانب إدارة كرة القدم في مصر وهي أفشل عناصر اللعبة، ومن قبلها إرادة الدولة التي من المفترض أن يكون دورها هو "التنظيم".

التنظيم يعني إدراك دوافع الحاضرين للتشجيع ودوافع المقاطعين للملاعب وإيجاد ثواب للملتزم وعقاب للمخطيء للوصول للصورة المثالية .. ولكن في مصر أيضا "الدولة هيبة" .. والهيبة في التعريف المصري لا تعني أي نوع من المسؤولية بقدر ما تعني "حقي في قتلك إذا أخطأت".

وهي النفس الدولة التي تقرر إغلاق أهم محطة مترو في البلد لأنها ترى أن دورها الأمني أهم كثيرا من دورها في تنظيم وتسهيل حياة الإنسان.

ولذلك من الطبيعي أن يموت الانسان المصري في ملعب الكرة .. وفي مواقع أخرى.

كلمة أخيرة عن الإعلام الرياضي:

يحصل بعض الإعلاميين على ملايين الجنيهات بسبب الإعلانات التي تذاع في برامجهم .. أموال الإعلانات تأتي من شركات تبيع منتجات لجماهير عادية بسيطة "من اللي بتتقتل في الملاعب دي" .. عندما يؤيد إعلامي قتل هذه الجماهير بسبب رغبته في استمرار "حنفية الفلوس" في الهطول فوق رأسه .. أفضل أسلوب للتعامل معه هو تنظيم حملات سلمية لمقاطعة رعاة برنامجه وتوصيل الرسالة إلى إدارات التسويق والمبيعات في هذه الشركات .. جرب هذا الأسلوب وستبهرك النتيجة.

للتواصل مع الكاتب عبر تويتر

مقالات أخرى للكاتب
التعليقات